وقوله تعالى:
«ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ» هو جواب القسم.. وهو تكذيب لهذه التهمة الحمقاء التي كان المشركون يرمون بها النبي، حين جاءهم يقول لهم: إنه رسول الله، وإنه يتلقى آيات الله التي يحملها إليه رسول الوحى جبريل عليه السلام.. فلقد هالهم هذا الأمر، واستعظموه، ورأوا أن القول به لا يكون من عاقل، لأنه لا يقع فى تصورهم أن يكون إنسان على اتصال بعالم السماء، وبرب السماء! إن اتصال الرسول بالله، ومخاطبة الملك له، يعنى عندهم أمرا مستحيلا، أشبه بمن يقول لهم: إنى أنا الذي أرسيت هذه الجبال بيدي، فلا يرون فى قائل هذا القول إلا أنه يهذى هذيان المخمور، أو المحموم، أو المجنون..
والباء فى قوله تعالى: «بمجنون» حرف جر، ومجنون خبر المبتدأ «أنت» أي: ما أنت بذي جنة، وفائدة حرف الجر هنا، أنه يقوم حجازا فاصلا بين النبي، وبين إسناد الجنون إليه..
فهذا الجنون، وإن كان واقعا تحت حكم النفي المسلط على المبتدأ «أنت» إلّا أنه هو حقيقة ثابتة، لم يتناولها النفي الذي وقع على المبتدأ: «ما أنت» .
فالمنفىّ عنه الجنون هنا، هو شخص النبي.. أما الجنون ذاته فإن نفيه عن النبي، إنما جاء تابعا للنفى الواقع على ذات النبي فى هذا المقام: «ما أنت» .. أي لست أنت الذي يوصف بهذا الوصف، بل غيرك هو المجنون، من هؤلاء الذين باعوا عقولهم فى سوق الغواية والضلال..
وهذا المعنى وإن كان يتحقق مع عدم ذكر حرف الجر، بأن يجىء النظم هكذا «ما أنت مجنون» فإن فيه مواجهة للنبى بهذه الصفة، التي هى أبعد