وفى هذا ما يشير إلى أن تلك القلوب التي يغضّ أصحابها أبصارهم عند رسول الله، قد امتحنت فعلا بالتقوى، وقد نجحت فى هذا الامتحان، فأصبحت قابلة للتقوى، متجاوبة معها.. فقد يمتحن الإنسان بالشيء، ولا يقبله، ولا يتجاوب معه.. أما إذا امتحن للشىء، واختير له، فإن ذلك يعنى أنه أهل لهذا الامتحان، وخاصة إذا كان المتخيّر له، هو الحكيم العليم، رب العالمين..
ولهذا، فإن قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى» هو خبر لقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ» بمعنى أن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله هم من أهل التقوى.. فهذا هو حكمهم عند الله..
وقوله تعالى: «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» خبر ثان لقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ» بمعنى أنهم أهل التقوى، وأنهم مجزيّون من الله سبحانه وتعالى بالمغفرة والأجر العظيم..
وفى الآيات الكريمة ما يكشف عن جانب عظيم من أخلاقيات الإسلام، وآدابه العالية، فيما يعرف اليوم بالدبلوماسية السياسية، التي تفرض على الناس مراسم من الأدب فى حضرة الملوك، والرؤساء، والقادة، والزعماء، وأصحاب السيادة والسلطان..
ولكن شتان بين أدب الإسلام، الذي ينبع من مشاعر صادقة، ويفيض من قلوب عامرة بالحب، خفّاقة بالولاء، وبين هذا الأدب التمثيلى المصطنع، الذي لا يتجاوز الكلمات التي ترددها الألسنة، والحركات التي تصطنعها الأجسام!! إنه أدب أشبه بأدب القرود بين يدى مؤدبها!.