محبوسا عن النطق، فلا يكون بينه وبين الناس تفاهم إلا بالإشارة بيده، أو الإماءة برأسه، أو ببعض الحركات بعضو أو بأكثر من عضو من جسده..
وفى هذا صوم إجبارى عن الكلام، وهو ضرب من ضروب العبادة العالية، وقد أمر الله تعالى به مريم فى قوله سبحانه: «فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» .
ويصحّ أن يكون قوله تعالى لزكريا: «قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً» يصح أن يكون هذا أمرا لزكريا بالصّوم عن الكلام ثلاثة أيام بلياليها، كما قال تعالى لزكريا فى آية أخرى: «قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا» (10: مريم) وعلى هذا المعنى يكون صوم زكريا عن الكلام صوما إراديّا، استجابة لأمر الله.
والسؤال هنا: لم كانت الآية على هذا الوجه، وهو أن يصمت زكريا عن الكلام- إجباريا أو اختياريّا- ثلاثة أيام؟
يجيب أكثر المفسرين على هذا بأن ذلك كان عقابا لزكريا فى موقفه هذا القلق، الذي وقفه من الخبر الذي جاءه عن ربّه.. فقال أولا: «أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا؟» ثم قال ثانيا: «رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً» ! والذي نراه- والله أعلم- ن هذا الصمت الذي فرضه الله تعالى على زكريا مدة ثلاثة أيام، هو الدواء الذي تسكن به النفس المضطربة المهتاجة بهذا الخبر العجيب.. وهو طب بليغ، لا يغنى غيره غناءه فى مثل تلك الحال..
ذلك أنه ليس أحسن من الصمت علاجا لجمع النفس المشتتة، وتسكين القلب المهتاج!.
ولو كان ذلك الصمت عقوبة لكان تكديرا لتلك النعمة التي كانت فى