فإنه مهما بلغ الإنسان من علم، ومهما أوتى من نفاذ بصيرة، ومن قدرة على التجرد من الهوى، ومهما تحرّى العدل واجتهد فى تحقيقه، فإنه قد يقع له أحيانا من المشكلات ما يغيم عليه فيه وجه الحق، ويغيب عنه وجه الصواب..
ومن هنا كان على من يقوم للفصل فى الخصومات، أن يكون على حذر دائما، وألّا يعجل بالرأى الذي يظهر له لأول نظرة، بل يقلب وجوه النظر كلها، ويعرض بعضها على بعض.. فما كان منها أقرب إلى الحق والعدل أخذ به.. وفى هذا يقول النبي الكريم: «إنما أنا بشر وإنكم لتختصمون إلىّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما، هى قطعة من النار، فليأخذها أو يدعها..» .
هذا- والله أعلم- هو المقصد الذي جاءت له هذه القصة.. وهى فى هذا النظم الذي جاءت عليه، مؤدية- فى أكمل أداء وأتم صورة، وأعجز إعجاز وإيجاز- المقصد الذي قصدت إليه.
أما القصة، فهى- كما جاءت فى روايات المفسرين وأصحاب السير- تتلخص فيما يلى، وهو مما يروى عن ابن عباس: كان لجماعة زرع، وقيل كرم تدلّت عنا قيده، وكان لآخرين غنم ترعى قريبا من هذا الزرع أو الكرم، فغفل عنها رعاتها، فانطلقت إلى الزرع، فانتشرت فيه، وعاثت فى أرجائه.
وجاء أصحاب الزرع يشكون أصحاب الغنم إلى داود، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث! .. فلما لقى سليمان أصحاب الغنم قال لهم: كيف قضى بينكم؟ فأخبروه، فقال: لو وليت أمركم لقضيت بغير هذا، فلما علم داود بذلك دعاه، فقال: كيف تقضى بينهم؟ قال: أدفع الغنم إلى أصحاب الحرث فيكون لهم أولادها وألبانها وصوفها ومنافعها، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا بلغ الحرث الحدّ الذي كان عليه، أخذه أصحاب الحرث، وردوا الغنم إلى أصحابها. فقصى داود بهذا!!