وهنا، يجىء الكافر إلى صاحبه من ناحية أخرى، فيسمعه بأذنه ما رآه بعينه، لعل الكلمة هنا تفعل مالا تفعله الصورة.. واستمع إلى تصوير القرآن لهذا المشهد، وهو يصف الرجل وقد دخل بصاحبه إحدى جنتيه:
«وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً» .
هكذا يكيد هذا الضالّ لصاحبه، ويجىء إليه بما يظن أنه يملأ قلبه حسرة وحسدا.. فيتحدث عن جنّته هذا الحديث الذي يتيه فيه فخرا وزهوا، بما يملك بين يديه، من ثراء طائل، وجاه عظيم.. إنه ينظر إلى جنّته كأنه يراها لأول مرة، فيقول: «ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً» .. ثم ينظر فى وجه صاحبه ليرى وقع هذه الكلمة على مشاعره، فيرى استنكارا وامتعاضا، وتعجبا، من هذا الغرور الذي يذهل صاحبه عن بدهيّات الأمور.. فهل رأى هذا الأحمق الجهول، فيما يدور فى دنياه هذه، شيئا لا يبيد أبدا؟ وهل هذه أول جنّة كانت فى هذه البقعة؟ ألا يجوز أنها قامت على أنقاض دور كانت عامرة، أو جنات كانت خيرا من جنته؟
ولكنّ هذا الغوىّ الضالّ لا يرعوى عن غيّه وضلاله، ولا يجد فيما رأى على وجه صاحبه من أمارات الاستنكار، والاستهجان، ما يمسك لسانه عن هذا الهذيان.. فيتبع قولته: «ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً» بقولة أشنع منها، وأمعن فى الضلال.. فيقول: «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً» ! وهكذا يخلى شعوره من كلّ خاطرة تخطر له، عما وراء هذا العالم المادىّ الذي هو غارق فيه!! ويتفرّس مرّة أخرى فى وجه صاحبه، ليرى وقع هذه الكلمة عليه، إذ هى ركيزة إيمانه، وأساس معتقده، بعد الإيمان بالله..! وربّما كرّر هذه القولة مرة