وفى وقوف القرآن الكريم عند تلك الحالة التي يصل فيها الإنسان إلى أرذل العمر- إشارة إلى ما يلبس الإنسان فى تلك الحالة من صور فى الحياة، أشبه بما كان عليه فى أول مراحل العمر.. فيضمر جسده، وتضعف قواه، وتتحول مشاعره، ومدركاته، إلى مشاعر الطفولة ومدركتها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ» (68: يس) .
- وفى قوله تعالى: «يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» إشارة إلى أن امتداد العمر بالإنسان، ينتهى به عند نقطة معينة يبدأ بعدها الرجوع إلى الوراء، من حيث بدأ رحلة الحياة، وهو رجوع على وضع مقلوب، منتكس، يجرى على عكس الاتجاه الذي كان يأخذه فى أول حياته، التي كان طريقه فيها يمشى به صعدا، على حين أنه فى رحلة العودة إلى الوراء يهبط منحدرا، حتى ليكاد يقع على مستوى نقطة البدء التي بدأ منها.. وهذا ما يكشف عنه قوله تعالى «أَرْذَلِ الْعُمُرِ..» فالرذل هو الخسيس من كل شىء.. وتلك المرحلة المتقدمة من العمر هى أسوأ مراحل العمر وأرذله.. وقد أحسن المعرى فى قوله:
وكالنّار الحياة فمن رماد ... أواخرها، وأولها دخان
فأول العمر دخان، ثم يتكشف هذا الدخان عن نار، هى شباب الحياة، وجذوته، ثم تخمد هذه الجذوة، وينطفىء هذا الشباب، فإذا هو رماد..
تسرى فيه بعض حرارة النار، ثم يبرد شيئا فشيئا حتى يكون ترابا.. وذلك هو آخر مطاف الإنسان فى هذه الحياة..!
- وفى قوله تعالى: «لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً» إشارة إلى أن هذا الإنسان الذي امتدّ به الأجل إلى هذا المدى، قد عاد من رحلته الطويلة فى الحياة، إلى النقطة التي بدأ منها.. فمن ولد لا يعلم شيئا، انتهى إلى حيث لا يعلم شيئا، كما يقول الله تعالى: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً» ..