قوله: (والإيمان بأقدار الله كلها خيرها وشرها)، هذا فيه رد على عموم القدرية، فإن منهم من ينكر أقدار الله عز وجل في الخير والشر، وهؤلاء القدرية الغلاة، ومنهم من ينكر أن يكون الشر من تقدير الله، وهذا هو قول القدرية الأولى قدرية معبد الجهني وغيلان الدمشقي، وكذلك قول طوائف من القدرية الثانية وهم المعتزلة، فهم يقولون بأن الخير من تقدير الله لكن ينفون أن يكون الشر من تقدير الله، وبعضهم ينفي القدر مطلقاً، ويقول: لا قدر والأمر أنف، يعني أن الله لم يقدر أفعال المكلّفين.
فالقدرية الأولى أو ما بدأ قولهم بإنكار القدر إطلاقاً ثم خففت من قولها حتى حصرت إنكار القدر في الشر فقط، زعماً منهم أن نسبتها إلى الله لا تليق! مع أننا نعلم أن نسبتها إلى الله تقديراً غير نسبتها إلى الله عز وجل في الإرادة الدينية أو في الحب والرضا، فإن الله لا يحب الشر ولا يرضاه، لكنه قدره على العباد ابتلاء وجزاء لأعمالهم.
وقوله: (وحلوها ومرها) داخلة في خيرها وشرها.
الشاهد أن القدرية بداية أمرها كانت تُنكر أن يكون الله عز وجل قدّر أفعال المكلفين إطلاقاً، وهذا معنى شعارهم: لا قدر والأمر أنف، أي أن أفعال العباد مستأنفة لم يكن لله فيها تقدير ولا علم حتى حدثت، فلما حدثت دخلت في علم الله، ثم تدرجوا في التخفيف فأثبتوا العلم وبقوا على إنكار أقدار المكلفين، ثم أثبتوا أن يكون الخير من تقدير الله والشر ليس من تقدير الله، لكنهم أيضاً بفلسفة مخففة.
قوله: (قد علم الله ما العباد عاملون)، هذا فيه إثبات العلم المطلق لله عز وجل، وإثبات المرتبة الأولى من مراتب القدر.
ومراتب القدر أربع لا بد من الإيمان بها مجملة كلها، ثم لا بد من الإيمان بها مرتبة: فأول مراتب القدر العلم، ومعناه أن الله علم ما كان وما يكون، وما سيكون كيف يكون.
ثم بعد ذلك الكتابة، فإن الله كتب كل شيء، فلما خلق القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء، فكل شيء في كتاب بما في ذلك أفعال العباد، بل أفعال العباد هي الأهم؛ لأنها خلقت من أجل هذه الأمانة التي تحملها العباد، وخُلقت من أجلها السماوات والأرضين.
ثم الدرجة الثالثة وهي المشيئة والإرادة: فإن الله أراد كل شيء إرادة كونية وشاءه مشيئة عامة.
ثم بعد ذلك الخلق، أي أن آخر مراتب القدر الخلق وهي المرتبة الرابعة، فالله خالق كل شيء فعلم كل شيء، وكتبه، وشاءه، وخلقه ومن هنا تنتظم جميع صور الموجودات في علمها وكتابتها ومشيئتها وتقديرها وخلقها، ومقاديرها التفصيلية كلها داخلة في علم الله عز وجل، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة سبحانه.