قال رحمه الله تعالى: [وإذا أردت الاستقامة على الحق وطريق أهل السنة قبلك فاحذر الكلام، وأصحاب الكلام، والجدال، والمراء، والقياس، والمناظرة في الدين، فإن استماعك منهم وإن لم تقبل منهم يقدح الشك في القلب، وكفى به قبولاً فتهلك، وما كانت زندقة قط ولا بدعة ولا هوى ولا ضلالة إلا من الكلام، والجدال، والمراء، والقياس، وهي أبواب البدعة والشكوك والزندقة].
الأصل الذي تقتضيه نصوص الكتاب والسنة والذي عليه الصحابة والتابعون وأئمة الهدى إلى يومنا هذا التحذير من الكلام ومن أهل الكلام، والجدال، والمراء في الدين، والقياس في أمور العقيدة والمناظرة في أمر الدين، فإن الأصل هو المنع، لكن إن جاز فباستثناءات وضرورات، فأهل السنة اضطروا للمناقشات واضطروا لقراءة كتب علم الكلام للرد على أهلها، لكن هذه حالات ضرورة لا يقوم بها إلا من تتوافر فيه الشروط.
وإذا وجد عالم اضطر لأن يستعمل هذه الأمور أو يلجأ إلى مناظرة أهل الكلام، أو أن يقرأ كتبهم ثم يرد عليهم فهذه من المحرمات التي جازت لضرورة الدفاع عن الحق؛ لأن هذه الأمور عمت بها البلوى، فلا يمكن أن تقام الحجة على الناس ويبين لهم الحق إلا من خلال هدم أصولها، ولا تهدم أصولها إلا بمعرفتها، لكن ليس هذا لكل إنسان بل وليس لكل طالب علم أن يستمع للمتكلمين، ولا أن يقرأ علم الكلام، ولا أن يوقع نفسه في المجادلات والمناظرات بغير استعداد.
بعض الناس يقول: أنا أجد أحياناً الساحة خالية -كما يفعل بعض من يشاركون في الفضائيات- وأنا لا بد أن أقوم ولو بجهد المقل، وهو غير مؤهّل هذا في الحقيقة ما عرف قاعدة المصالح والمفاسد، لأن الإنسان إذا انبرى لأمر من الأمور كأن يجادل أحد عتاة الضلالة من العقلانيين أو العصرانيين أو العلمانيين أو المتكلمين وهو من العتاة الكبار والمتمرّسين في هذا الأصل، ثم وقف له إنسان عن ضعف، بدعوى أنه يريد أن يدافع عن الحق لأن الساحة خالية، فإن هذا ما أدرك أنه سيؤدي إلى خذلان الحق، لأنه بظهوره بمظهر الضعف سيؤدي إلى افتتان الناس بالرجل الآخر صاحب الباطل.
وهذا الموقف ينبغي أن يسلك فيه المسلم مثل موقف جد النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاء إلى أبرهة يسأله إبله، قال: الآن بيتكم سيدك، ومقدّساتكم ستهدم وأنت تأتي تطلب الإبل؟ فقال: أنا رب إبلي وللبيت رب يحميه! فللدين رب يحميه فلا تدخل وأنت ضعيف، أو جاهل بأصول المناظرة وبمذهب الخصم، بل أنت جاهل بمذهبك نفسك.
وأغلب الذين وقفوا مع أهل الأهواء في المجادلات عبر الفضائيات في الآونة المتأخرة لم يفقهوا السنة فضلاً عن أن يفقهوا عقائد الخصم، فدخلوا بغير استعداد إلا مجرد الغرور والتعالي والظن بأنهم يعرفون الحق، وهم لا يعرفون السنة، بل ينتسبون إليها وهم ضدها، فقد يكون عندهم شيء من البدع في أنفسهم فيتصدون لهذه المواقف على أنهم أهل السنة، فهذا يوقع أهل الحق في حرج، ويوقع الحق في حرج، فلا ينبغي للمسلم أن يسلك هذه المسالك إلا عن استعداد.
ولذلك ينبغي لمن رأى مثل هذه الأمور أن يعرف أن الناس يبذلون وسعهم، وأن الدخول من غير مقدرة واستعداد خارج الوسع، والله عز وجل تكفّل بحفظ الدين فلا نخاف على دين الله عز وجل، لكن يجب أن نعد أنفسنا لأنا قصرنا.
نعم، ينبغي أن تنبري طائفة من طلاب العلم الآن تعد نفسها للردود باستعداد جيد، وبفقه لدين الله عز وجل، وباستيعاب لعقيدة السلف ومناهج الدين، ثم بعد ذلك ندخل في هذه الحلبة ولو بعد سنين ولا يضر، أما الدخول من غير مقدرة فإنه يؤدي كما حصل إلى خذلان الحق والتباس الأمور على الناس.