قال رحمه الله تعالى: [وقال بعض العلماء منهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه: الجهمي كافر، ليس من أهل القبلة، حلال الدم لا يرث ولا يورث؛ لأنه قال: لا جمعة ولا جماعة، ولا عيدين، ولا صدقة، وقالوا: من لم يقل القرآن مخلوق فهو كافر، واستحلوا السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وخالفوا من كان قبلهم، وامتحنوا الناس بشيء لم يتكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه، وأرادوا تعطيل المساجد والجوامع، وأوهنوا الإسلام، وعطّلوا الجهاد، وعملوا في الفرقة، وخالفوا الآثار، وتكلموا بالمنسوخ، واحتجوا بالمتشابه، فشككوا الناس في آرائهم وأديانهم، واختصموا في ربهم، وقالوا: ليس عذاب قبر ولا حوض ولا شفاعة، والجنة والنار لم تخلقا، وأنكروا كثيراً مما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحل من استحل تكفيرهم ودماءهم من هذا الوجه؛ لأنه من رد آية من كتاب الله فقد رد الكتاب كله، ومن رد أثراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رد الأثر كله، وهو كافر بالله العظيم، فدامت لهم المدة، ووجدوا من السلطان معونة على ذلك، ووضعوا السيف والسوط دون ذلك، فدرس علم السنة والجماعة، وأوهنوهما وصارتا مكتومتين لإظهار البدع والكلام فيها ولكثرتهم، واتخذوا المجالس، وأظهروا رأيهم، ووضعوا فيه الكتب، وأطمعوا الناس، وطلبوا لهم الرياسة، فكانت فتنة عظيمة لم ينج منها إلا من عصم الله، فأدنى ما كان يصيب الرجل من مجالستهم أن يشك في دينه أو يتابعهم، أو يرى رأيهم على الحق، ولا يدري أنه على حق أو على الباطل، فصار شاكاً، فهلك الخلق، حتى كانت أيام جعفر الذي يقال له: المتوكل، فأطفأ الله به البدع، وأظهر به الحق، وأظهر به أهل السنة، وطالت ألسنتهم مع قلتهم وكثرة أهل البدع إلى يومنا هذا.
والرسم وأعلام الضلالة قد بقي منهم قوم يعملون بها ويدعون إليها، لا مانع يمنعهم، ولا حاجز يحجزهم عما يقولون ويعملون].
هذا كلام عظيم، ويمثل خلاصة وصف الجهمية المعتزلة على وجه الخصوص، ووصف أهل الأهواء على وجه العموم وسماتهم في كل زمان، وهذا أشبه بكلمات الإمام أحمد وإن لم يجزم أنه من كلامه، لكنه فيه عبارات هي من كلام الإمام أحمد؛ لأن الإمام أحمد يتميّز منهجه بالتأصيل وانتخاب العبارات الجامعة المانعة في التعبير عن أصول الاعتقاد وأصول المخالفين، ولا يحب الحشو من الكلام ولا الاستطراد.
وهنا أشار الشيخ إلى سبعة عشر أصلاً من أصول الجهمية ثم عرّج على سمات الجهمية التي كانت تتميز بها في ذلك العصر، بل وفي كل عصر، وهذا الكلام الذي سأذكره وهو قواعد الجهمية يشمل الجهمية والمعتزلة في ذلك الوقت؛ لأن الجهمية في ذلك الوقت تتمثّل بالمعتزلة، وانطوت تحت لوائها، وصارت المعتزلة هي التي رفعت لواء التجهّم في القرن الثالث، فلا فرق بينهما في هذه الفترة التي عبّر عنها الإمام أحمد والأئمة من بعدهم، والتمييز الفني أو التمييز التخصصي بين الجهمية والمعتزلة إنما يأتي عند الكلام المفصّل عنهما، أما عند الكلام عن مفردات مقولاتهما فإنه لا فرق بينهما إلا في أمور قليلة، لا سيما في الأصول، فإن أصول الجهمية والمعتزلة واحدة، إنما الاختلاف في بعض التفريعات والتفصيلات، فمن هنا الكلام عن الجهمية يشمل المعتزلة ويشمل الفرق التي أخذت بأصول التجهم والاعتزال في ذلك الوقت، وهي الرافضة والخوارج.
فإن الرافضة والخوارج في ذلك الوقت أخذوا بأصول التجهّم والاعتزال، حتى أنه من المشهور الذي ينبغي أن يعلمه أيضاً كل طالب علم، أن الذين رفعوا لواء الفتنة من المعتزلة الجهمية في القرن الثالث كان أغلبهم رافضة لكن شعار التجهّم غلب عليهم، ومنهم شيعة غير رافضة.
فعلى هذا نقول: إن الكلام هنا يشمل جميع أهل الأهواء في ذلك الوقت، وإن كان موجهاً إلى الجهمية والمعتزلة.
قال الشيخ: (وقال بعض العلماء منهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه: الجهمي كافر)، يقصد بذلك الجهمي الخالص، أو الجهمي الذي أصر في ذلك الوقت على القول بخلق القرآن؛ لأنها قضية الساعة في ذلك الوقت.
ومن هنا نستفيد فائدة في منهج تقرير الدين والدفاع عنه، وهو أنه كلما اشتهرت مسألة من المسائل التي تخالف الحق سواء كانت من بدع العقائد أو بدع العادات أو بدع العبادات أو بدع الأعياد أو بدع الأحوال أو غيرها، فإنه يسع طلاب العلم أن يكثروا من الكلام عنها، ولا يكون ذلك مخالفاً للمنهج؛ لأن كل شيء له مناسبته، فإذا بُلي الناس ببلية من البلايا فلا بد من كثرة الكلام عنها، فإذا ابتلي الناس مثلاً بالطعن في العلماء فلا بد من التركيز على هذه القضية، ولا يعتبر ذلك خروجاً أو مبالغة وإذا ابتلي الناس بعدم النصح للولاة، فلا بد من التركيز على هذه القضية؛ لأنها قضية خطيرة إذا تُركت فتكت بالأمة، وإذا ابتلي الناس بالكلام عن إنكار الشفاعة مثل ما ظهر في الآونة الأخيرة عن بعض المفتونين، فيسع طلاب العلم أن يشهروا القضية ويتك