الكلام هنا في أصول الجهمية، وأصول الجهمية كثيرة وسيوردها الشيخ بعد قليل فيما أورده الإمام أحمد وغيره من الأئمة، لكنه هنا ذكر مجمل أصول الجهمية التي خالفوا فيها السنة والتي تفردوا بها وعارضوا بها الحق، وأول ذلك أنهم فكّروا في الرب عز وجل، أي: أخضعوا ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله لأفكارهم، وجعلوا للعقول سلطاناً على الخوض في الجوانب الغيبية من ذلك.
والتفكير في الرب عز وجل لا طاقة للبشر فيه ولا للمخلوقات، والتفكر إنما هو في مخلوقات الله وفي آلائه ونعمه، وفي حكمه وخلقه، لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته وأفعاله.
ويجب على المسلم أن يقف عند ألفاظ الشرع ومعانيها ولا يتجاوز ذلك إلى الكيفيات، أو إلى الحقائق الغيبية، فإن الحقائق الغيبية غير معلومة، هذا هو الأصل، والجهمية تجاوزت هذا الأصل وفكّرت في ذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته وأفعاله على الحقيقة الغيبية، أو فكّرت في الحقيقة الغيبية بالكيفيات، فمن هنا وقعت فيما وقعت فيه بعد ذلك، حيث أعملوا عقولهم فيما لا طاقة لها به من أمور الغيب، وبخاصة ما يتعلق بالله عز وجل، فنشأ عن ذلك الأصل الباطل الثاني عند الجهمية، وهو أنهم لما أعملوا عقولهم وردت عليهم أسئلة وشبهات لِم وكيف؟ يعني: لِم فعل الله كذا؟ لِم وصف الله نفسه بكذا؟ لِم لم يصف الله نفسه كذا؟ وكيف كان كذا؟ وكيف تكون صفته؟ وكيف يكون اسمه؟ إلى آخره ثم نشأ عن ذلك أصل ثالث، وهو أنهم حينما وجدت عندهم هذه الشبهات لم يعالجوها بالأثر، والأثر هو الكتاب والسنة وما ورد عن الصحابة والتابعين وأئمة السلف.
وكأن الشيخ يقول: لما فكّروا في الرب عز وجل وأخطئوا في ذلك ثم دخلوا في الشبهات بكيف ولِم، كان المفروض أن يزيلوا هذه الشبهات والشكوك بالرجوع إلى الكتاب والسنة الذي هو الأثر، والرجوع إلى آثار السلف الصالح، لكنهم لم يفعلوا فتركوا الأثر، فنتج عن ذلك أصل رابع، وهو أنهم حينما خاضوا وفكّروا في الرب عز وجل وأدخلوا لِم وكيف، ولم يحكّموا الكتاب والسنة اضطروا لوضع أصول من عندهم على القياس أي: قياس الغائب على الشاهد، وأعظم الغيب وأوله وأعلاه وأجله ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته، فقاسوا الغيب على عالم الشهادة فقالوا: لا يكون موجود إلا جسماً، ولا يكون جسم إلا مركّباً من أجزاء، ولا يكون مركّب من أجزاء إلا مفتقراً إلى أجزائه، ثم قالوا: هذه الأمور لا تليق بالله عز وجل، فنفوا عن الله الأسماء والصفات والأفعال ولما وضعوا القياس وقاسوا الدين على رأيهم، نتج عن هذا نتيجة وهي الأصل الخامس، وهو أن جاءوا بالكفر عياناً، فأنكروا ذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته وأفعاله إنكاراً صريحاً، حتى أنهم لم يثبتوا لله عز وجل إلا الوجود المطلق أو مطلق الوجود، أو الوجود المجرد، أو الوجود الذهني، أو الوجود العقلي على اختلاف بينهم.
فنتج عن ذلك أن خالفوا الأمة، فلما خالفوها وقالوا بالكفر اضطروا لنتيجة وهي الأصل السادس، وهي تكفير من خالفهم.
فالجهمية تكفّر من خالفها من المعتزلة ومتكلمة الأشاعرة.
وكما قلت: إنه في مثل هذا المقام إذا تكلمنا عن الجهمية نقصد بهم العموم إلا إذا دلّت القرينة على أن المقصود طائفة منهم، فالجهمية هم كل من أنكر الصفات أو أوّلها، فعلى هذا فالجهمية الخالصة جهمية، والمعتزلة جهمية، ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية جهمية، ومتكلمة الكلابية جهمية وهكذا، لكن الذين وقعوا في الكفر هم الجهمية الأصلية، وطوائف من المعتزلة.
ثم وقعوا في الأصل السابع عندهم وهو القول بالتعطيل