(وكفّروا من خالفهم)، أكثر من كفّر من خالفهم أهل الأهواء قديماً وحديثاً، أولهم الخوارج والسبئية والمرجئة والقدرية والمعتزلة والجهمية وسواهم كل هؤلاء تكفيرهم لمن خالفهم أكثر مما يظن كثير من الناس من أنهم أهل تسامح في الرأي، والعجيب أن الجهمية والمعتزلة تدّعي أنها هي العقلانية وأنها تنصر حرية الرأي، وحينما نجد منهجها وتعاملها مع الآخرين نجدها أشد الفرق حجراً على رأي الآخرين، ولذلك كفّروا من خالفهم في وجهة النظر حتى كفّر بعضهم بعضاً كما هو معروف.
إذاً: فالتكفير من سماة أهل الأهواء، حتى المرجئة الذين يظن بعض الناس أن أصل شبهتهم التساهل في الأحكام، وأنهم لا يكفّرون غيرهم إلا أن المتأخرين منهم أكثر وقوعاً في التكفير من غيرهم.
قوله: (فدخل في قولهم الجاهل والمغفل)؛ لأنهم يلبّسون على الناس، (والذي لا علم له)، يعني لأنهم جرئوا الجهال على القول في الدين، وهذا منهج لأهل الأهواء في كل زمان، ومع الأسف أن هذا المنهج ظهر في زماننا بشكل سافر وخطير ومزعج، فإن كثيراً من أصحاب الاتجاهات وأصحاب الأهواء الشخصية والجماعية، يطرحون قضايا الدين وقضايا الشرع ومصالح الأمة العظمى في المجالس العامة، ويثرثرون بها كما يتناولون قضايا الحياة العامة، ويجعل الدين كسائر التخصصات وكسائر الأمور، بل ربما يحترمون التخصصات العلمية الأخرى ولا يحترمون قضايا الشرع والدين، فيقولون على الله بغير علم، ويجرئون الناس على ذلك، فصار الناس بالتبع لهذه الفئة الذين يدّعون التحرر والثقافة والفكر يتناولون الدين بغي علم، ويتكلمون بما لا علم لهم به، وهذا منهج خطير ينبغي التنبه له.
قال: (حتى كفروا من حيث لا يعلمون)، طبعاً كثير من الناس يقع في الكفر وهو لا يعلم لجهله (فهلكت الأمة من وجوه)، الهلكة هنا هي الوقوع في الفتنة؛ لأن أعظم ما يوقع الناس في الهلكة في دينهم ودنياهم الفتن، وأول الفتن الفتن في الدين، فإنها هي التي ينبثق عنها الفتن في الدنيا فالفتن في الدين والأخلاق هي الهادمة التي تهدم كيان الناس وأمنهم وتهدم مصالحهم من وجوه، ذكر هذه الوجوه.
وقوله: (وكفرت من وجوه)؛ يقصد بذلك لما كثرت البدع والأهواء وقع الناس في الكفر من حيث أرادوا الإسلام، ووقعوا في البدعة من حيث يزعمون أنهم يريدون السنة، فكفرت كثير من الفرق وكفّروا كثيراً من الناس، لوقوعهم في أقوالهم الكفرية.
(وتزندقت من وجوه)، يقصد بهذا الإشارة إلى وجود غلاة المرجئة والجهمية وغيرهم الذين أعرضوا عن الدين وتساهلوا فيه، حتى كان الدين عندهم مجرد معرفة القلب، فلما وجدت هذه النزعة بسبب الجهمية وجدت الزندقة وكثرت في الأمة؛ لأنهم أشاعوا في الناس أنه يكفي للمسلم أن يعرف ربه، وأنه إذا عرف ربه لم تنفعه طاعة بعد ذلك ولا تضره معصية، فمن هنا انفتح باب الزندقة، ولذلك نجد كثيراً من رءوس الجهمية زنادقة، فهم أهل تحلل في الدين وإعراض عن شرع الله عز وجل، وأهل تفسّخ ووقوع في شنائع الذنوب وكبائرها؛ لأنهم اعتقدوا أن الدين هو المعرفة فقط، ولذلك دخلت هذه العقيدة الخبيثة في كثير من الفرق التي تقمصت أصول الجهمية فيما بعد مثل طرق الصوفية التي تكثر فيها الزندقة باسم الدين، ويحصل فيها الفجور باسم الدين، والتفسّخ والتحلل من الأخلاق والأديان والعقائد باسم الدين.
ثم قال: (وضلت من وجوه)، يعني ضلال الأهواء كما هو معروف.
(وابتدعت من وجوه)، لعله يقصد بهذا البدع الظاهرة؛ لأنه ذكر البدع قبل ذلك، لكن ربما يقصد البدع الظاهرة التي بدأت تنتشر في وقته بشكل ذريع أكثر من ذي قبل، حيث انتشرت بدع الأقوال وبدع الأعمال وبدع العبادات القبورية، والمشاهد والآثار، والتوسل البدعي وهذا في جميع الفرق لا تتميز به فرقة عن أخرى، وإن كانت الطرق أكثر من غيرها في تسويق البدع الظاهرة.
قال: (إلا من ثبت على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره وأمر أصحابه، ولم يخطئ أحداً منهم) وهم أهل السنة والجماعة، فإن أهل السنة والجماعة ثبتوا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى منهج الصحابة، ولم يخطئوا أحداً من الصحابة، والمقصود هنا بالتخطئة تخطئة التبديع، هذا معلوم، وإلا فكون الصحابة يخطئون في الاجتهاد أمر عادي، لكن الخطأ في الاجتهاد لا يُعد ذنباً ولا عيباً، ولا بدعة، بل هو سنة الله في خلقه، وهو من سمات هذا الدين الذي وسّع للناس في أمر الاجتهاد.
فلا يقصد هنا التخطئة في الاجتهاديات، لكن تخطئة التبديع أو تحميلهم المسئولية أو اتهام النيات والقلوب، وهذا كله وقع فيه أهل الأهواء كلهم، ومن لم يقدح بأعيان الصحابة قدح في منهجهم في رواية الحديث، أو منهجهم في تطبيق قواعد الإسلام، أو منهجهم في تعامل بعضهم مع البعض.
أقول وأنا موقن: إنه لا يوجد فرقة من الفرق إلا وقعت في أعراض الصحابة واتهمتهم بأي نوع من أنواع الاتهام، هذا لا أجد فيه استثناء.
قال: (ولم يجاوز أمرهم) أي: أمر الصحابة، (ووسعه ما وسعهم، ولم يرغب عن طريقتهم ومذهبهم، وعلم أنهم كانوا على الإسلام الصحيح، والإيمان الصحيح، فقلدهم دي