قال رحمه الله تعالى: [واعلم رحمك الله أنه ما كانت زندقة قط، ولا كفر ولا شك ولا بدعة ولا ضلالة ولا حيرة في الدين إلا من الكلام وأهل الكلام والجدال والمراء والخصومة، والعجب كيف يجترئ الرجل على المراء والخصومة والجدال، والله تعالى يقول: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:4]، فعليك بالتسليم والرضا بالآثار وأهل الآثار والكف والسكوت].
التسليم والكف والسكوت هو الأصل والمراء محرم، لكن بين الأمرين ما يباح عند الحاجة وما يلزم عند الضرورة، وهو الجدال بالتي أحسن، وبشروط الجدال التي سبق الإشارة إليها في درس ماض، فإن هذا يجب عندما يحتاج الدين إلى دفاع، ويحتاج الحق إلى نصر والباطل إلى رد، فإذا ظهرت البدعة واستشرى أمرها واستفحلت شعارات أهل الأهواء والبدع، فلابد من المجادلة بإقامة الحجة عليهم.
وكذلك الجدال في الاجتهاديات يجوز ما لم يصل إلى المراء وذلك للوصول إلى الحق الذي يقتضيه الدليل والشيخ في إشارته القوية إلى تحريم المراء والخصومة والجدل يقصد الخصومة التي تصل إلى المراء.
وقوله: (واعلم رحمك الله أنها ما كانت زندقة قط ولا كفر إلا بالكلام والجدال والمراء والخصومة)، فهذا في الجملة صحيح لكن لا يدل على حصر وجود هذه الضلالات على هذا السبب، فإن أسباب وجود الزندقة والكفر والشك والبدعة والضلالة والحيرة في الدين كثيرة، لكن أعظمها وأشدها وأنكاها وأبغضها إلى يومنا هذا هو الجدل والمراء والخصومات في الدين، وقد يكون بعضها أقرب إلى الجدل من بعض، فالزندقة لاشك أنها ما دخلت على المسلمين إلا بعد انتشار الجدل وكذلك الكفر، أما البدعة فقد بدأت قبل وجود الجدال وقد اندست بين المسلمين بسبب الجهل وتقليد الأمم الأخرى وبسبب الأهواء، فبدع الخوارج الأولى بدأت شرارتها صامته همساً لم يكن فيها جدال ظاهر، ثم توسعت بالجدال وتعمقت وتجارت بأهلها كما يتجارى الكلب بصاحبه، وشرارتها الأولى كانت شبهات يقذفها شياطين الإنس والجن في آذان ضعاف الدين وضعاف العقول.
وكذلك بدع الشيعة الأولى ظهرت بالجدال، وكانت قد بدأت بهمسات من شياطين الجن والإنس في قلوب العجم، وبعد أن ظهرت استفحلت وانتشرت وعمت بها البلوى بالجدال، فالجدال مرحلة تالية من بداية الأهواء، وبعض الأهواء نشأت بسبب الجدال استقلالاً، مثل مذهب القدرية.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية سبباً ظريفاً يؤيد القول بأن الجدل سبب لظهور بعض البدع والفرق، فذكر أن أكبر سبب لظهور القدرية هو جدال الناس في احتراق الكعبة ما بين سنة ستين إلى أربعة وستين تقريباً، فلما احترقت بدأ الناس يتكلمون بعلم وبغير علم: هل احترقت بتقدير من الله أو بغير تقدير من الله؟ فخاض العوام في هذه الأمور، فأدخلت النصارى واليهود شبهاتهم من خلال هذه القصة على الناس! فهذا يدل على أن من الفرق ما كان سبب ظهوره الجدال والخصومات والمراء في الدين.
ومن ذلك أيضاً المشبهة، لا شك أنه ما ظهرت المشبهة والمجسمة إلا من المراء والجدال الذي حصل مع الجهمية.