إِن الْمَدِينَة العالمية الْحَاضِرَة إِنَّمَا هِيَ مَدَنِيَّة الْمَادَّة وَإِن أدنى نظرة فِيهَا ترى بوضوح أَن الرّوح المادية مسيطرة طاغية حَتَّى لقد حددت دَائِرَة الْعلم فِيهَا بدائرة مادية واتجه الْبَحْث نتيجة لذَلِك إِلَى الْمَادَّة على الْخُصُوص ومنذ أَن أرسى بيكون قَوَاعِد الاستقراء والملاحظة والتجربة اتجه الباحثون إِلَى اتِّخَاذ ذَلِك وَحده منهجا للبحث عَن الْحَقِيقَة وحينما نشا ملاحدة الْقرن الثَّامِن عشر وَالتَّاسِع عشر موهوا على النَّاس فصوروا لَهُم الدائرة المادية على أَنَّهَا الدائرة الثَّابِتَة الَّتِي تتكشف فِيهَا الْحَقَائِق أما مَا عدا هَذِه الدائرة مِمَّا وَرَاء الطبيعة وَمن الْغَيْب فَإِنَّهَا زيف كلهَا وسراب خداع
وَقَامَ فِي الغرب كَمَا قَامَ فِي الشرق أفذاذ مصلحون ينادون بِأَن طغيان الرّوح المادية يتنافى مَعَ الانسانية وَمَعَ الْأَخْلَاق وَمَعَ الدّين أى دين كَانَ وَلَكِن صرخاتهم تلاشت أَمَام الغرائز الجامحة والشهوات الملحة والأهواء الغلابة وسادت الرّوح المادية فِي الحضارة الراهنة وَكَانَ من نتيجة ذَلِك الْحَرْب الْكُبْرَى الأولى وَالْحَرب الْكُبْرَى الثَّانِيَة اللَّتَان لم تدعا قطرا من الأقطار أَو إقليما من الأقاليم إِلَّا ونثرتا فِيهِ الشَّقَاء الوانا شقاء الْفقر أَو شقاء الْمَوْت والهلاك والدمار
واذا سادت الرّوح المادية أَصبَحت الأهداف والغايات مادية اصبحت استعمارا وامتصاص دِمَاء وسيطرة بِالْقُوَّةِ واغتصابا بل أَصبَحت سلبا ونهبا واستعباد دولة لدولة وإلقاء بِكُل المعايير الأخلاقية والإنسانية إِلَى موطئ الْأَقْدَام
وكل ذَلِك فِي الْوَاقِع هُوَ الحضارة الحالية بل إِن الْوَاقِع أدهى من ذَلِك وأفظع وَأي قلم يُمكنهُ أَن يصور مأساة هيروشيما وناجازاكي الَّتِي تولى كبرها وباء بإثمها من يَزْعمُونَ أَنهم حَملَة مشعل حضارة الْقرن الْعشْرين