الموسم عبد الملك بن مروان وقبيصة بن ذؤيب وعروة بن الزبير، وكنّا نخوض في الفقه مرّة، وفي المذاكرة مرّة، وفي أشعار العرب وأمثال الناس مرّة، فكنت لا أجد عند أحد ما أجده عند عبد الملك: من الاتساع في المعرفة، والتصرّف في فنون العلم، وحسن استماعه إذا حدّث، وحلاوة لفظه إذا حدّث. فخلوت معه ذات ليلة فقلت: والله إني لمسرور بك لما أشاهده من كثرة تصرفك وحسن حديثك وإقبالك على جليسك، فقال لي: إنك إن تعش قليلا سترى العيون طامحة إليّ، والأعناق قاصدة، فلا عليك أن تعمل إليّ ركابك فلأملأنّ يديك. فلما أفضت إليه الخلافة شخصت أريده، فوافقته يوم جمعة وهو يخطب الناس على المنبر، فلما وقعت عينه عليّ بسر في وجهي وأعرض عنّي، فقلت: لم يثبتني معرفة أو عرفني فأظهر لي نكرة، لكني لم أبرح مكاني حتى قضيت الصلاة ودخل، فلم ألبث أن خرج الحاجب فقال: أين مالك بن عمارة؟ فقمت وأخذ بيدي وأدخلني عليه، فلما رآني مدّ إليّ يده وقال: إنك تراءيت لي في موضع لم يجز فيه إلّا ما رأيت من الإعراض والانقباض، فأما الآن فمرحبا وأهلا، كيف كنت بعدي، وكيف كان مسيرك؟ قلت: بخير وعلى ما يحبّه أمير المؤمنين.
فقال: أتذكر ما كنت قلت لك؟ قال، قلت: نعم وهو الذي أعملني إليك.
فقال: والله ما هو بميراث ادّعيناه ولا أثر رويناه، ولكني أخبرك من نفسي بخصال سمت بها نفسي إلى الموضع الذي ترى: ما لا حيت ذا ودّ قط، ولا شمتّ بمصيبة، ولا قصدت كبيرة من محارم الله متلذّذا بها واثبا عليها، وكنت من قريش في بيتها، ومن بيتها في واسط قلادتها، فكنت آمل بهذه أن يرفع الله لي، وقد فعل، يا غلام بوّئه منزلا في الدار. فأخذ الغلام بيدي وقال: انطلق إلى رحلك، فكنت في أخفض حال وأنعم بال، وكان يسمع كلامي وأسمع كلامه، فإذا حضر عشاؤه وغداؤه أتاني الغلام فقال: إن شئت صرت إلى أمير المؤمنين فإنه جالس، فأمشي بلا حذاء ولا رداء، فيرفع من مجلسي ويقبل على مجالستي، ويسألني عن العراق مرة وعن الحجاز مرّة، حتى مضت لي عشرون