وإنّ بعضهم يقتل بعضا. فعجب كسرى من ذلك وقال: بلغت حيلة قوم أن يكونوا على ما تصفون؟ قالوا: نعم. وكتب إلى النعمان بن المنذر يخبره بما قالت الأعاجم وأنه أنكر ذلك، وأمره أن يكتب إليه بشيء من كتبهم ليعتبر به عقولهم. فكتب النعمان إلى أكثم بن صيفي أن اكتب إلينا أمرا نبلغه عنك الملك، وأخبره بما رفع إلى الملك من قلة عقول العرب، فكتب إليه أكثم:
لن يهلك امرؤ حتى يستصغر أفعال الناس عند فعله، ويستبدّ على قومه برأيه في أموره، ويعجب بما يظهر من مروءته، ويعبر بالضعف عن قوته، والعجز عن الأمر يتأتّى له، وإنه ليس للمختال في حسن الثناء نصيب، ولا للوالي المعجب في بقاء سلطانه ظفر به، وإنه لا تمام لشيء مع العجب، ومن أتى المكروه إلى أحد فبنفسه بدأ، لقاء الأحبة مسلاة، اللهم ومن أسر ما يشتبه إعلانه فلم يعالن الأعداء بسريرته سلم الناس عليه وعظم عندهم شأنه. والغيّ أن تتكلم فوق ما يشبه حاجتك، وينبغي لمن له عقل أن لا يثق بإخاء من لم تضطرّه إليه حاجة، وأقلّ الناس راحة الحسود، من أتى بيده ما يقصده بقلبه فأعفه من اللائمة، ولا تحل رحمتك دون عقوبتك، فإن الأدب رفق، والرفق يمن؛ إنّ كثير النصح يهجم على كثير الظّنّة؛ إن أردت النصيحة فبعد إسرافك على الفضيحة؛ وانّ أكيس الكيس التّقى وأحمق الحمق الفجور.
فبعث النعمان بهذا الكتاب إلى كسرى فقرىء عليه وفسّر له، فقال لأصحابه: أهؤلاء الذين زعمتم أنهم لا عقول لهم، ما على الأرض قوم أعقل من هؤلاء وليكوننّ لهم نبأ.
1359- قال الكلبي: قدم النعمان بن المنذر على كسرى وعنده وفود الروم والهند والصين، فذكروا ملوكهم وبلادهم، فافتخر النعمان بالعرب وفضّلهم على جميع الأمم لا يستثني فارسا ولا غيرها. فقال كسرى- وأخذته غيرة الملك-:
يا نعمان لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم، ونظرت في حال من يقدم