*وهنا يرد سؤال، وهو أنه هل يحق لنا أن نردّ روايةً لمبتدع؛ لأنها منكرة تؤيد بدعته، ومع ذلك نقبل بقية مروياته؟ فهو إما أن يُتهم بالكذب؛ لروايته لذلك الحديث المنكر، وعليه فلا يُقبل له حديثٌ مطلقاً، وإما أن تقبل جميع أحاديثه، حتى الرواية التي نزعم أنها منكرة! فالجواب: أن هذا السؤال بهذا الاستثناء صحيح، وهذا الحكم مشابه لما يفعله القاضي في ردّ شهادة من له مصلحة أو قرابة للمشهود له، كشهادة الأب لابنه؛ لأنها مظنة أن يروي سوى الحق، وإن كان الشاهد عدلاً في نفسه، ومن أهل الديانة، مع أن القاضي قد يقبل شهادة الرجل نفسه، في قضية أخرى تنتفي فيها تلك المظنة. فمثل ذلك رواية الراوي المبتدع، فيما إذا روى ما يؤيد بدعته، إذا كان منكراً.
تنبيه: على طالب العلم أن يتنبه إلى أن كثيراً من ألفاظ العلماء حول المبتدعين تتعلق بهم في حياتهم -من حيث الرواية-، فيقول -مثلاً-: لا يُروي عن فلان. يقصد بذلك تحذير الناس من هذا الرجل مادام حيّاً، وهجره وتأديبه بذلك؛ ولكي لا يذهب إليه الناس فيروي لهم الروايات ويُدخل عليهم شُبه البدعة. فكثيراً من تلك العبارات كانت من باب الدعوة لهجر المبتدع، لا لبيان حكم روايته، ومن ذلك ماجاء عن الإمام أحمد أنه ذكر أحد المبتدعة وحذّر الناس منه، وكان لا يروي عنه في حياته، فلما مات روى الإمام أحمد عن رجل عنه؛ وذلك لانقطاع الخوف من فتنته، وكان رجلَ صدقٍ، ضابطاً للرواية، فبقيت مصلحة الرواية عنه، وذهبت مفسدة انتشار بدعته، وإشهار أمره.
أول من قسّم هذه المراتب تقسيماً واضحاً هو ابن أبي حاتم في مقدمة كتابه (الجرح والتعديل) ثم تتابع بعد ذلك بعض أهل العلم في بيان هذه المراتب، مابين مختصر ومطوّل، فمن أكثر الكتب التي أطالت في بيان هذه المراتب كتاب (فتح المغيث) للسخاوي، وأكثَر من ذكر ألفاظ الجرح والتعديل.