وَتَسْخِيرَهَا وَتَدْبِيرَ نِظَامِهَا فِي طُولِ الدَّهْرِ يَدُلُّ أَفْكَارَ الْمُتَأَمِّلِينَ عَلَى أَنَّ مُبْدِعَهَا يَقْدِرُ عَلَى أَمْثَالِهَا فَيَسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَدِيرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى إِبْدَاعِ مَا هُوَ دُونَهَا ظَاهِرَةٌ، وَدَلَالَتَهَا عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُشَاهَدَةٍ، فَقِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَالِقَ أَمْثَالِهَا قَادِرٌ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ تَدْبِيرَ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْإِتْقَانِ الْمُشَاهَدِ فِي نِظَامِهَا، دَلِيلٌ عَلَى سِعَةِ عِلْمِ مُبْدِعِهَا وَإِحَاطَتِهِ بِدَقَائِقِ مَا هُوَ دُونَهَا، وَأَنَّ مَنْ كَانَ عِلْمُهُ بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ لَا يُظَنُّ بِعِلْمِهِ إِلَّا الْإِحَاطَةُ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ.
فَالْعِلْمُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لِتَعْلَمُوا صَادِقٌ عَلَى عِلْمَيْنِ: عِلْمٌ يَقِينِيٌّ مُسْتَنِدٌ إِلَى أَدِلَّةٍ يَقِينِيَّةٍ مُرَكَّبَةٍ مِنَ الدَّلَالَةِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَعِلْمٌ ظَنِّيٌّ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ وَالْقَرَائِنِ.
وَكِلَا الْعِلْمَيْنِ مُوَصِّلٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ فِي الِاسْتِدْلَالِ الْخَطَابِيِّ (بِفَتْحِ الْخَاءِ) .