وَمِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ الْإِتْيَانُ ب (عسر ويسرا) نَكِرَتَيْنِ غَيْرَ مُعَرَّفَيْنِ بِاللَّامِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مِنَ التَّعْرِيفِ مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً.
[8- 11]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً.
لَمَّا شُرِعَتْ لِلْمُسْلِمِينَ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الطَّلَاقِ وَلَوَاحِقِهِ، وَكَانَتْ كُلُّهَا تَكَالِيفَ قَدْ تُحْجِمُ بَعْضُ الْأَنْفُسِ عَنْ إِيفَاءِ حَقِّ الِامْتِثَالِ لِهَا تَكَاسُلًا أَوْ تَقْصِيرًا رَغَّبَ فِي الِامْتِثَالِ لَهَا بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطَّلَاق: 2] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطَّلَاق: 4] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطَّلَاق: 5] وَقَوْلِهِ: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطَّلَاق: 7] .
وَحَذَّرَ اللَّهُ النَّاسَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَتِهَا بِقَوْلِهِ: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطَّلَاق: 1] ، وَقَوْلِهِ: ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [الطَّلَاق: 2] أَعْقَبَهَا بِتَحْذِيرٍ عَظِيمٍ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مُخَالَفَةِ أَحْكَامِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ لِقِلَّةِ الْعِنَايَةِ
بِمُرَاقَبَتِهِمْ، لِأَنَّ الصَّغِيرَ يُثِيرُ الْجَلِيلَ، فَذَكَّرَ الْمُسْلِمِينَ (وَلَيْسُوا مِمَّنْ يَعْتُوا عَلَى أَمْرِ رَبِّهِمْ) بِمَا حَلَّ بِأَقْوَامٍ مِنْ عِقَابٍ عَظِيمٍ عَلَى قِلَّةِ اكْتِرَاثِهِمْ بِأَمْرِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ لِئَلَّا يَسْلُكُوا سَبِيلَ التَّهَاوُنِ بِإِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ، فَيُلْقِي بِهِمْ ذَلِكَ فِي مَهْوَاةِ الضَّلَالِ.
وَهَذَا الْكَلَامُ مُقَدِّمَةٌ لِمَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ الْآيَاتِ.
فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْجُمَلِ السَّابِقَةِ عَطْفَ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ.
وكَأَيِّنْ اسْمٌ لِعَدَدِ كَثِيرٍ مُبْهَمٍ يُفَسِّرُهُ مَا يُمَيِّزُهُ بَعْدَهُ مِنَ اسْمٍ مَجْرُورٍ بِمِنْ وكَأَيِّنْ بِمَعْنَى (كَمِ) الْخَبَرِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فِي آلِ عِمْرَانَ [146] .
وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِفَادَةِ التَّكْثِيرِ هُنَا تَحْقِيقُ أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي نَالَ أَهْلَ تِلْكَ الْقُرَى شَيْءٌ مُلَازِمٍ لِجَزَائِهِمْ عَلَى عُتُوِّهِمْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَرُسُلِهِ فَلَا يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ ذَلِكَ مُصَادَفَةً فِي بَعْضِ الْقُرَى وَأَنَّهَا غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ فِي جَمِيعِهِمْ.