بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْقُرْآنِ، فَوِزَانُ هَذَا الْقَصْرِ وِزَانُ قَوْلِهِ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الْبَقَرَة: 16]
وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (?) : «إِنَّمَا الْمُفْلِسُ الَّذِي يُفْلِسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
. وَأَفَادَ تَعْرِيفُ جُزْأَيْ جُمْلَةِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ قَصْرَ الْمسند على الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ أَيْ قَصْرَ جِنْسِ يَوْمِ التَّغَابُنِ عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَصْرِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا، أَيْ ذَلِكَ يَوْمُ الْغَبْنِ لَا أَيَّامُ أَسْوَاقِكُمْ وَلَا غَيْرُهَا، فَإِنَّ عَدَمَ أَهَمِّيَّةِ غَبْنِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا جَعَلَ غَبْنَ الدُّنْيَا كَالْعَدَمِ وَجَعَلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُنْحَصِرًا فِيهِ جِنْسُ الْغَبْنِ.
وَأَمَّا لَامُ التَّعْرِيفِ فِي قَوْلِهِ: التَّغابُنِ فَهِيَ لَامُ الْجِنْسِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر: 15] . وَقَوْلُهُ فِي ضِدِّهِ يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر: 29] . هَذَا هُوَ الْمُتَعَيَّنُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مَرَّ بِهَا مَرًّا. وَلَمْ يَحْتَلِبْ مِنْهَا دَرًّا. وَهَا أَنَا ذَا كَدَدْتُ ثِمَادِي، فَعَسَى أَنْ يَقَعَ لِلنَّاظِرِ كَوَقْعِ الْقَرَاحِ مِنَ الصَّادِي، وَالله الْهَادِي.
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [التغابن: 8] وَهُوَ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ:
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [التغابن: 8] الَّذِي هُوَ تَذْيِيلٌ.
ومَنْ شَرْطِيَّةٌ وَالْفِعْلُ بَعْدَهَا مُسْتَقْبَلٌ، أَيْ مَنْ يُؤْمِنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ نُكَفِّرْ عَنْهُ مَا فَرَّطَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالسَّيِّئَاتِ: الْكُفْرُ وَمَا سَبَقَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ.
وَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ: الْعَفْوُ عَنِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا وَهُوَ مَصْدَرُ كَفَّرَ مُبَالِغَةً فِي كَفَرَ. وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعَفْوِ عَمَّا سَلَفَ مِنَ السَّيِّئَاتِ وَأَصِلُهُ: اسْتِعَارَةُ السَّتْرِ لِلْإِزَالَةِ مِثْلَ الْغُفْرَانِ أَيْضًا.
وَانْتَصَبَ صالِحاً عَلَى الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: عَمَلًا صَالِحًا.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ نُكَفِّرْ وندخله بِنُونِ الْعَظَمَةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ لِأَنَّ مَقَامَ الْوَعْدِ مَقَامُ إِقْبَالٍ فناسبه ضمير التَّكَلُّم.
وَقَرَأَ هما الْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ ضَمِيرَ الْجَلَالَةِ يُؤْذِنُ بِعِنَايَةِ اللَّهِ بِهَذَا الْفَرِيقِ. وَجُمْلَةُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ تذييل.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
وَقَوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا، أَيْ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِهَذِهِ الدَّعْوَةِ ثَبَتَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ. وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي جَانِبِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الثَّبَاتِ لِعَرَاقَتِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ.
وَجِيءَ لَهُمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِمْ تَمْيِيزًا لَا يَلْتَبِسُ مَعَهُ غَيْرُهُمْ بِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِ:
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] مَعَ مَا يُفِيدُهُ اسْمُ الْإِشَارَةِ مِنْ أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ لملازمة النَّار ناشىء عَنِ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَهَذَا وَعِيدٌ.
وَجُمْلَةُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ اعْتِرَاضٌ تَذْيِيلِيٌّ لِزِيَادَةِ تهويل الْوَعيد.
[11]