تَعْلِيلٌ لِلدَّعَوَاتِ كُلِّهَا فَإِنَّ التَّوَكُّلَ وَالْإِنَابَةَ وَالْمَصِيرَ تُنَاسِبُ صِفَةَ الْعَزِيزُ إِذْ مِثْلُهُ يُعَامِلُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَطَلَبَ أَنْ لَا يَجْعَلَهُمْ فِتْنَةً بِاخْتِلَافِ مَعَانِيهِ يُنَاسِبُ صِفَةَ الْحَكِيمُ، وَكَذَلِكَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا ابْتَهَلُوا إِلَيْهِ أَنْ لَا يَجْعَلَهُمْ فِتْنَةَ الْكَافِرِينَ وَأَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ رَأَوْا أَنَّ حِكْمَتَهُ تُنَاسِبُهَا إِجَابَةُ دُعَائِهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحهمْ وَقد جاؤوا سائلينه.
[6]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
تَكْرِيرُ قَوْلِهِ آنِفًا قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ [الممتحنة: 4] إِلَخْ، أُعِيدَ لِتَأْكِيدِ التَّحْرِيضِ وَالْحَثِّ عَلَى عَدَمِ إِضَاعَةِ الِائْتِسَاءِ بِهِمْ، وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ إِلَخْ.
وَقَرَنَ هَذَا التَّأْكِيدَ بِلَامِ الْقَسَمِ مُبَالَغَةً فِي التَّأْكِيدِ. وَإِنَّمَا لَمْ تَتَّصِلْ بِفِعْلِ كانَ تَاءُ تَأْنِيثٍ مَعَ أَنَّ اسْمَهَا مُؤَنَّثُ اللَّفْظِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ أُسْوَةٌ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَلِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَمَرْفُوعِهِ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ.
وَالْإِسْوَةُ هِيَ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَاخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي هَمْزَتِهَا فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
وَقَوْلُهُ: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ:
لَكُمْ وَهُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمُخَاطَبِينَ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِضَمِيرِ لَكُمْ الْمُؤْمِنُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: 1] فَلَيْسَ ذِكْرُ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ تَخْصِيصًا لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُ ذِكْرٌ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَقْتَضِي تَأَسِّيَهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ السَّابِقَيْنَ وَهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَالَّذِينَ مَعَهُ.
وَأُعِيدَ حَرْفُ الْجَرِّ الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ لِتَأْكِيدِ أَنَّ الْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ.
وَالْقَصْدُ هُوَ زِيَادَةُ الْحَثِّ عَلَى الِائْتِسَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ وَمن مَعَه، وليرتب عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنَ الْعَوْدِ لِمَا نُهُوا عَنْهُ.