وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: نَسُوهُ لِاسْتِفْظَاعِ هَذَا النِّسْيَانِ فَعَلَّقَ باسم الله الَّذِي خَلَقَهُمْ وَأَرْشَدَهُمْ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي وَصْفِهِمْ بِشِدَّةِ الْفِسْقِ حَتَّى كَأَنَّ فِسْقَ غَيْرِهِمْ لَيْسَ بِفِسْقٍ فِي جَانِبِ فِسْقِهِمْ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِلتَّشْهِيرِ بِهِمْ بِهَذَا الْوَصْفِ.
وَالْفِسْقُ: الْخُرُوجُ مِنَ الْمَكَانِ الْمَوْضُوعِ لِلشَّيْءِ فَهُوَ صِفَةُ ذَمٍّ غَالِبًا لِأَنَّهُ مُفَارَقَةٌ لِلْمَكَانِ اللَّائِقِ بِالشَّيْءِ، وَمِنْهُ قِيلَ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا، فَالْفَاسِقُونَ هُمُ الْآتُونَ
بفواحش السَّيِّئَات ومساوئ الْأَعْمَالِ وَأَعْظَمُهَا الْإِشْرَاكُ.
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ الْإِبْهَامِ الَّذِي أَفَادَهُ قَوْلُهُ:
فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ كَأَنَّ السَّامِعَ سَأَلَ: مَاذَا كَانَ إِثْرَ إِنْسَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ أَنْفُسَهُمْ؟ فَأُجِيبُ بِأَنَّهُمْ بَلَغُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ مُنْتَهَى الْفِسْقِ فِي الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ حَتَّى حَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا فِسْقَ بعد فسقهم.
[20]
لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)
تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الْحَشْر: 18] إِلَخْ. لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِخُلَاصَةِ عَاقِبَةِ الْحَالَيْنِ: حَالِ التَّقْوَى وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْآخِرَةِ، وَحَالِ نِسْيَانِ ذَلِكَ وَإِهْمَالِهِ، وَلِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ عَاقِبَةُ عَمَلِهِ. وَيَشْمَلُ الْفَرِيقَيْنِ وَأَمْثَالَهُمْ.
وَالْجُمْلَةُ أَيْضًا فَذْلَكَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ حَالِ الْمُتَّقِينَ وَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ وَنُسُّوا أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّ ذِكْرَ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ بَعْدَ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ لِلتَّعْرِيضِ بِذَلِكَ الْمُتَحَدَّثِ عَنهُ كَقَوْلِك عِنْد مَا تَرَى أَحَدًا يُؤْذِي النَّاسَ:
«الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»
، فَمَعْنَى الْآيَةِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، وَكَوْنِ الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ هُمْ أَهْلُ النَّارِ فَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ وَعْدًا لِلْمُتُّقِينَ وَوَعِيدًا لِلْفَاسِقِينَ.