وَمُشَاهِدُونَهَا وَوَادُّونَ دَفْعَهَا أَوْ تَأْخِيرَهَا، فَإِنَّ الَّذِي قَدِرَ عَلَى خَلْقِ الْمَوْتِ بَعْدَ الْحَيَاةِ قَادِرٌ عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ إِذِ الْقُدْرَةُ عَلَى حُصُولِ شَيْءٍ تَقْتَضِي الْقُدْرَةَ عَلَى ضِدِّهِ فَلَا جَرَمَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِ حَيٍّ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ حَيَاةٌ وَعَلَى إِمَاتَتِهِ بَعْدَ الْحَيَاةِ قَدِيرٌ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي حَالَتَيْ إِحْيَائِهِ وَإِمَاتَتِهِ، وَمَا الْإِحْيَاءُ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ إِلَّا حَالَةٌ مِنْ تَيْنِكَ الْحَقِيقَتَيْنِ، فَوَضَحَ دَلِيلُ إِمْكَانِ الْبَعْثِ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ [الْحَج: 66] .

هَذَا أصل المفاد من قَوْله: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ثمَّ هُوَ مَعَ ذَلِك تَنْبِيه على أَن الْمَوْت جعله الله طورا من أطوار الْإِنْسَان لحكمة الِانْتِقَال بِهِ إِلَى الْحَيَاة الأبدية بعد إعداده لَهَا بِمَا تهيئه لَهُ أَسبَاب الْكَمَال المؤهلة لتِلْك الْحَيَاة لتتم الْمُنَاسبَة بَين ذَلِك الْعَالم وَبَين عامريه. وَقد مضى الْكَلَام على ذَلِك عِنْد تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ فِي سُورَة الْمُؤمنِينَ [115] .

فَهَذَا وَجْهُ التَّعْبِيرِ بِ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ دُونَ: نَحْنُ نُمِيتُكُمْ، أَيْ أَنَّ الْمَوْتَ مَجْعُولٌ عَلَى تَقْدِيرٍ مَعْلُومٍ مُرَادٍ، مَعَ مَا فِي مَادَّةِ قَدَّرْنا مِنَ التَّذْكِيرِ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ لِتَتَوَجَّهَ أَنْظَارُ الْعُقُولِ إِلَى مَا فِي طَيِّ ذَلِكَ مِنْ دَقَائِقَ وَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَخَاصَّةٌ فِي تَقْدِيرِ مَوْتِ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ سَبِيلٌ إِلَى الْحَيَاةِ الْكَامِلَةِ إِنْ أَخَذَ لَهَا أَسْبَابَهَا.

وَفِي كَلِمَةِ بَيْنَكُمُ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي عَلَى آحَادِهِمْ تَدَاوُلًا وَتَنَاوُبًا، فَلَا يُفْلِتُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَلَا يَتَعَيَّنُ لِحُلُولِهِ صِنْفٌ وَلَا عُمُرٌ فَآذَنَ ظَرْفُ (بَيْنَ) بِأَنَّ الْمَوْتَ كَالشَّيْءِ الْمَوْضُوعِ لِلتَّوْزِيعِ لَا يدْرِي أحد مَتَى يُصِيبُهُ قِسْطُهُ مِنْهُ، فَالنَّاسُ كَمَنْ دُعُوا إِلَى قِسْمَةِ مَالٍ أَوْ ثَمَرٍ أَوْ نَعَمٍ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يُنَادَى عَلَيْهِ لِيَأْخُذَ قِسْمَهُ، أَوْ مَتَى يَطِيرُ إِلَيْهِ قِطُّهُ وَلَكِنَّهُ يُوقِنُ بِأَنَّهُ نَائِلُهُ لَا مَحَالَةَ.

وَبِهَذَا كَانَ فِي قَوْلِهِ: بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ إِذْ شَبَّهَ الْمَوْتَ بِمَقْسُومٍ وَرَمَزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ بِكَلِمَةِ بَيْنَكُمُ الشَّائِعِ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْقِسْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ [الْقَمَر: 28] . وَفِي هَذِهِ الْاِسْتِعَارَةِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ الْمَوْتِ فَائِدَةً وَمَصْلَحَةً لِلنَّاسِ أَمَّا فِي الدُّنْيَا لِئَلَّا تَضِيقَ بِهُمُ الْأَرْضُ وَالْأَرْزَاقُ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلِلْجَزَاءِ الْوِفَاقِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015