وَغَيَّرَ أُسْلُوبَ الْكَلَامِ مِنَ الْخِطَابِ الْمُوَجَّهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ [الْقَمَر: 43] إِلَخْ إِلَى أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ رُجُوعًا إِلَى الْأُسْلُوبِ الْجَارِي مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ:
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا [الْقَمَر: 2] بَعْدَ أَنْ قُضِيَ حَقُّ الْإِنْذَارِ بِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ [الْقَمَر: 43] .
وَالكَّلَامُ بِشَارَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْرِيضٌ بِالنِّذَارَةِ لِلْمُشْرِكِينَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ تُحَدِّثُهُمْ نُفُوسُهُمْ بِذَلِكَ وَأَنَّهُمْ لَا يَحْسَبُونَ حَالَهُمْ وَحَالَ الْأُمَمِ الَّتِي سِيقَتْ إِلَيْهِمْ قِصَصُهَا مُتَسَاوِيَةً، أَيْ نَحْنُ مُنْتَصِرُونَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَيْسَ رَسُولَ اللَّهِ فَلَا يُؤَيِّدُهُ اللَّهُ.
وجَمِيعٌ اسْمٌ لِلجَّمَاعَةِ الَّذِينَ أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الْإِحَاطَةِ، وَنَظِيرُهُ مَا وَقَعَ فِي خبر عمر مَعَ عَليّ وَعَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَضِيَّةِ مَا تَرَكَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَرْضِ فَدَكَ، قَالَ لَهُمَا: «ثُمَّ جِئْتُمَانِي وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ» ، وَقَوْلُ لَبِيدٍ:
عَرِيَتْ وَكَانَ بِهَا الْجَمِيعُ فَأَبْكَرُوا ... مِنْهَا وَغُودِرَ نُؤْيُهَا وَثُمَامُهَا
وَالْمَعْنَى: بَلْ أَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يُغَالِبُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه وَأَنَّهُمْ غالبونهم لِأَنَّهُمْ جَمِيعٌ لَا يُغْلَبُونَ.
وَمُنْتَصِرٌ: وَصْفُ جَمِيعٌ، جَاءَ بِالْإِفْرَادِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ جَمِيعٌ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ مُتَعَدِّدًا.
وَتَغْيِيرُ أُسْلُوبِ الْكَلَامِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هَذَا هُوَ ظَنُّهُمْ وَاغْتِرَارُهُمْ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: «نَحْنُ نَنْتَصِرُ الْيَوْمَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ» . فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ كَانَتِ الْآيَةُ مِنَ الْإِعْجَازِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْإِخْبَارِ بِالْغَيْبِ.
وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْقَى فِي نُفُوسِ الْمُشْرِكِينَ هَذَا الْغُرُورَ بِأَنْفُسِهِمْ وَهَذَا الْاِسْتِخْفَافُ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتْبَاعِهِ لِيَشْغِلَهُمْ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ بِالْيَدِّ وَيُقْصِرَهُمْ عَلَى تَطَاوُلِهِمْ عَلَيْهِ بِالْأَلْسِنَةِ حَتَّى تَكْثُرَ أَتْبَاعُهُ وَحَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنَ الْهِجْرَةِ وَالْاِنْتِصَارِ بِأَنْصَارِ اللَّهِ.