وَتَرَاكِيبَ بِوَفْرَةِ الْمَعَانِي، وَبِكَوْنِ تَرَاكِيبِهِ أَقْصَى مَا تَسْمَحُ بِهِ تِلْكَ اللُّغَةُ، فَهُوَ خِيَارٌ مِنْ خِيَارٍ مِنْ خِيَارٍ. قَالَ تَعَالَى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: 195] .
ثمَّ يكون المتلقين لَهُ أُمَّةً هِيَ أَذْكَى الْأُمَمِ عُقُولًا وَأَسْرَعُهَا أَفْهَامًا وَأَشَدُّهَا وَعْيًا لِمَا تَسْمَعُهُ، وَأَطْوَلُهَا تَذَكُّرًا لَهُ دُونَ نِسْيَانٍ، وَهِيَ عَلَى تَفَاوُتِهِمْ فِي هَذِهِ الْخِلَالِ تَفَاوُتًا اقْتَضَتْهُ سُنَّةُ الْكَوْنِ لَا يُنَاكِدُ حَالُهُمْ فِي هَذَا التَّفَاوُتِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ تَيْسِيرِهِ لِلذِّكْرِ، لِأَنَّ الذِّكْرَ جِنْسٌ مِنَ الْأَجْنَاسِ الْمَقُولِ عَلَيْهَا بِالتَّشْكِيكِ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ الْأَفْهَامِ عَلَى مُدَارَسَتِهِ وتدبره بَدَت لجموعهم مَعَانٍ لَا يُحْصِيهَا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ وَحْدَهُ.
وَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَى عُلَمَاءِ الْقُرْآنِ تَبْيِينَهُ تَصْرِيحًا كَقَوْلِهِ: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النَّحْل: 44] ، وَتَعْرِيضًا كَقَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ [آل عمرَان: 187] فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَجْدَرُ بِهَذَا الْمِيثَاقِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ
بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»
. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلذِّكْرِ مُتَعَلقَة ب يَسَّرْنَا وَهِيَ ظَرْفٌ لَغْوٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، وَهِيَ لَامٌ تَدُلُّ عَلَى أَن الْفِعْل الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ فُعِلَ لِانْتِفَاعِ مَدْخُولِ هَذِهِ اللَّامِ بِهِ فَمَدْخُولُهَا لَا يُرَادُ مِنْهُ مُجَرَّدُ تَعْلِيلِ فِعْلِ الْفَاعِلِ كَمَا هُوَ مَعْنَى التَّعْلِيلِ الْمُجَرَّدِ وَمَعْنَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ الْمُنْتَصِبِ بِإِضْمَارِ لَامِ التَّعْلِيلِ الْبَسِيطَةِ، وَلَكِنْ يُرَادُ أَنَّ مَدْخُولَ هَذِهِ اللَّامِ عِلَّةٌ خَاصَّةٌ مُرَاعَاةٌ فِي تَحْصِيلِ فِعْلِ الْفَاعِلِ لِفَائِدَتِهِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ مَدْخُولُ هَذِهِ اللَّامِ مَفْعُولًا لِأَنَّ الْمَفْعُولَ لِأَجْلِهِ عِلَّةٌ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ وَمَدْخُولُ هَذِهِ اللَّامِ عِلَّةٌ خَاصَّةٌ فَالْمَفْعُولُ لِأَجْلِهِ بِمَنْزِلَةِ سَبَبِ الْفِعْلِ وَهُوَ كَمَدْخُولِ بَاءِ السَّبَبِيَّةِ فِي نَحْوِ فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ [العنكبوت: 40] ، وَمَجْرُورُ هَذِهِ اللَّامِ بِمَنْزِلَةِ مَجْرُورِ بَاءِ الْمُلَابَسَةِ فِي نَحْوِ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [الْمُؤْمِنُونَ: 20] ، وَهُوَ أَيْضًا شَدِيدُ الشَّبَهِ بِالْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ فِي بَابِ كَسَا وَأَعْطَى، فَهَذِهِ اللَّامُ مِنَ الْقِسْمِ الَّذِي سَمَّاهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» : شِبْهَ التَّمْلِيكِ. وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ ابْنَ مَالِكٍ فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» .