وَالْمَعْنَى: وَأَنْبَتْنَا فِي الْأَرْضِ أَصْنَافَ النَّبَاتِ وَأَنْوَاعَهُ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ يُظْهِرُ أَنَّ حَرْفَ مِنْ فِيهِ مَزِيدٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَزِيَادَةُ مِنْ فِي غَيْرِ النَّفْيِ نَادِرَةٌ، أَيْ أَقَلُّ مِنْ زِيَادَتِهَا فِي النَّفْيِ، وَلَكِنَّ زِيَادَتَهَا فِي الْإِثْبَاتِ وَارِدَةٌ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ، فَأَجَازَ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ نُحَاةُ الْكُوفَةِ وَالْأَخْفَشُ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ جِنِّي، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النُّور: 43] إِنَّ الْمَعْنَى: يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ جِبَالًا فِيهَا بَرَدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [99] .
فَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّوْكِيدِ بِحَرْفِ مِنْ تَنْزِيلُهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ أَنْبَتَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَنْوَاعٍ حِينَ ادَّعَوُا اسْتِحَالَةَ إِخْرَاجِ النَّاسِ مِنَ الْأَرْضِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالتَّوْكِيدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يُؤْتِ بِالتَّوْكِيدِ فِي آيَةِ سُورَةِ طه. وَلَيْسَتْ مِنْ هُنَا لِلتَّبْعِيضِ إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ.
فَكَلِمَةُ كُلِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [25] ، وَقَوْلِهِ فِيهَا وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها [الْأَنْعَام: 70] ، وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فِي سُورَةِ طه [53] .
وَفَائِدَةُ التَّكْثِيرِ هُنَا التَّعْرِيضُ بِهِمْ لِقِلَّةِ تَدْبِيرِهِمْ إِذْ عَمُوا عَنْ دَلَائِلَ كَثِيرَةٍ وَاضِحَةٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ.
وَالْبَهِيجُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً مُشَبَّهَةً، يُقَالُ: بَهُجَ بِضَمِّ الْهَاءِ، إِذَا حَسُنَ فِي أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ، فَالْبَهِيجُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ [النَّمْل: 60] .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مُنْبَهَجٌ بِهِ عَلَى الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، أَيْ يُسَرُّ بِهِ النَّاظِرُ، يُقَالُ: بَهَجَهُ مِنْ بَابِ مَنَعَ، إِذَا سَرَّهُ، وَمِنْهُ الِابْتِهَاجُ الْمَسَرَّةُ.
وَهَذَا الْوَصْفُ يُفِيدُ ذِكْرُهُ تَقْوِيَةَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى دِقَّةِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِدْمَاجَ الِامْتِنَانِ
عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ لِيَشْكُرُوا النِّعْمَةَ وَلَا يَكْفُرُوهَا بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: