وَ (فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيءِ) تَرْشِيحٌ لِاسْتِعَارَةِ لَا تَرْفَعُوا وَهُوَ فَوْقٌ مَجَازِيٌّ أَيْضًا.
وَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ مَوْقِعُ الْحَالِ مِنْ أَصْواتَكُمْ، أَيْ مُتَجَاوِزَةً صَوت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ مُتَجَاوِزَةَ الْمُعْتَادِ فِي جَهْرِ الْأَصْوَاتِ فَإِن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَكَلَّمُ بِجَهْرٍ مُعْتَادٍ. وَلَا مَفْهُومَ لِهَذَا الظَّرْفِ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا رفع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ فَارْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ بِمِقْدَارِ رَفْعِهِ.
وَالْمَعْنَى: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَبِحَضْرَتِهِ إِذَا كَلَّمَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا وَقع فِي سُورَة سَبَبِ النُّزُولِ. وَلَقَدْ تَحَصَّلَ مِنْ هَذَا النَّهْيِ مَعْنَى الْأَمْرِ بِتَخْفِيضِ الْأَصْوَاتِ عِنْدَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونُوا سُكُوتًا عِنْدَهُ.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَمَا كَانَ عُمَرُ يَسْمَعُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَيِ ابْنُ الزُّبَيْرِ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ (وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ إِلَّا كَأَخِي السِّرَارِ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ) .
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ «كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .
وَهَذَا النَّهْيُ مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِالْجَهْرِ فِيهَا كَالْأَذَانِ وَتَكْبِيرِ يَوْمِ الْعِيدِ، وَبِغَيْرِ مَا أَذِنَ فِيهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْنًا خَاصًّا كَقَوْلِهِ لِلْعَبَّاسِ حِينَ انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ «نَادِ يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ» وَكَانَ الْعَبَّاسُ جَهِيرَ الصَّوْتِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ نُهِيَ عَنْ جَهْرٍ آخَرَ وَهُوَ الْجَهْرُ بِالصَّوْتِ عِنْدَ خطابهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوُجُوبِ التَّغَايُرِ بَيْنَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيءِ وَمُقْتَضَى وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ.