أَقْوَالِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كُنَّا نَرَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ حَسَنَاتِنَا إِلَّا مَقْبُولًا حَتَّى نَزَلَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ، فَقُلْنَا: مَا هَذَا الَّذِي يُبْطِلُ أَعْمَالَنَا؟ فَقُلْنَا: الْكَبَائِرُ الْمُوجِبَاتُ وَالْفَوَاحِشُ حَتَّى نَزَلَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: 48] فَكَفَفْنَا عَنِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ وَكُنَّا نَخَافُ عَلَى مَنْ أَصَابَ الْكَبَائِرَ وَنَرْجُو لِمَنْ لم يصبهَا» اهـ. فَأَبَانَ أَنَّ ذَلِكَ مَحَامِلُ مُحْتَمَلَةٌ لَا جَزْمَ فِيهَا.
وَعَنْ مُقَاتِلٍ لَا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ بِالْمَنِّ وَقَالَ: هَذَا خِطَابٌ لِقَوْمٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَسْلَمُوا وَقَالُوا لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ آثَرْنَاكَ وَجِئْنَاكَ بِنُفُوسِنَا وَأَهْلِنَا، يَمُنُّونَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ وَنَزَلَ فِيهِمْ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ [الحجرات: 17] .
وَهَذِهِ مَحَامِلُ نَاشِئَةٌ عَنِ الرَّأْيِ وَالتَّوَقُّعِ، وَالَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ
أَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات وَلم يجىء: أَنَّ السَّيِّئَاتِ يُذْهِبْنَ الْحَسَنَاتِ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النِّسَاء: 40] .
وَتَمَسَّكَ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَاتِهِ الْآيَةِ فَزَعَمُوا أَنَّ الْكَبَائِرَ تُحْبِطُ الطَّاعَاتِ. وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ يَنْفُونَ عَنِ اللَّهِ الظُّلْمَ وَلَا يُسَلِّمُونَ ظَاهِرَ قَوْله: لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الْأَنْبِيَاء: 23] ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجْعَلُونَ اللَّهَ يُبْطِلُ الْحَسَنَاتِ إِذَا ارْتَكَبَ صَاحِبُهَا سَيِّئَةً. وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَسْطُورٌ فِي صُحُفِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَأَنَّ الْحَسَنَةَ مُضَاعَفَةٌ وَالسَّيِّئَةَ بِمِقْدَارِهَا. وَهَذَا أَصْلٌ تَوَاتَرَ مَعْنَاهُ فِي الْكِتَابِ وَصَحِيحُ الْآثَارِ، فَكَيْفَ يُنْبَذُ بِالْقِيلِ وَالْقَالِ مَنْ أَهْلِ الْأَخْبَارِ.
وَحَمَلَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ قَطْعِ الْعَمَلِ الْمُتَقَرَّبِ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَإِطْلَاقُ الْإِبْطَالِ عَلَى الْقَطْعِ وَعَدَمِ الْإِتْمَامِ يُشْبِهُ أَنَّهُ مَجَازٌ، أَيْ لَا تَتْرُكُوا الْعَمَلَ الصَّالِحَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، فَأَخَذُوا مِنْهُ أَنَّ النَّفْلَ يَجِبُ بِالشُّرُوعِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّوَافِلِ مُطْلَقًا. وَنَسَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ مِثْلَهُ إِلَى مَالِكٍ. وَمِثْلُهُ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ الْفُرْسِ. وَنَقَلَ