وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُولئِكَ إِشَارَةً إِلَى الْأَوَّلِينَ مِنْ قَوْلِهِ: فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَحْقَاف:
17] ، وَهُمُ الَّذِينَ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ أَبِيِ بَكْرٍ ذَكَرَهُمْ حِينَ قَالَ: فَأَيْنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ، وَأَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَشَائِخُ قُرَيْشٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَاسْتِحْضَارُ هَذَا الْفَرِيقِ بِطَرِيقِ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِ حَالِهِمُ الْعَجِيبَةِ.
وَتَعْرِيفُ الْقَوْلُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَهُوَ قَوْلٌ مَعْهُودٌ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِالْقَوْلِ فِي نَحْوِ آيَةِ قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84، 85] ، وَنَحْوِ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر:
19] ، فَإِنَّ الْكَلِمَةَ قَوْلٌ، وَنَحْوِ قَوْلِهِ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس: 7] الْآيَةَ. وَإِطْلَاقُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَشِيقٌ لِصُلُوحِيَّةِ.
وَإِقْحَامُ كانُوا خاسِرِينَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ خَاسِرُونَ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ خُسْرَانَهُمْ مُحَقَّقٌ فَكُنِّيَ عَنْ ذَلِكَ بِجَعْلِهِمْ كَائِنِينَ فِيهِ.
وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ (إِنَّ) لِأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ مَا حَصَلَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ التَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ فَوْزًا لَيْسَ بَعْدَهُ نَكَدٌ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَشُبِّهَتْ حَالَةُ ظَنِّهِمْ هَذَا بِحَالِ التَّاجِرِ الَّذِي قَلَّ رِبْحُهُ مِنْ تِجَارَتِهِ فَكَانَ أَمْرُهُ خُسْرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي الْبَقَرَةِ [16] .
وَإِيرَادُ فِعْلِ الْكَوْنِ بِقَوْلِهِ: كانُوا خاسِرِينَ دُونَ الِاقْتِصَارِ عَلَى خاسِرِينَ لِأَنَّ
(كَانَ) تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَسَارَةَ متمكنة مِنْهُم.
[19]
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
عَطْفٌ عَلَى الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ يتَقَبَّل عَنْهُم [الْأَحْقَاف: 16] ثُمَّ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ [الْأَحْقَاف: 18] إِلَخْ.
وَتَنْوِينُ (كُلٍّ) تَنْوِينُ عِوَضٍ عَمَّا تُضَافُ إِلَيْهِ كُلٌّ وَهُوَ مُقَدَّرٌ يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ، أَيْ وَلِكُلِّ الْفَرِيقَيْنِ الْمُؤْمِنِ الْبَارِّ بِوَالِدَيْهِ وَالْكَافِرِ الْجَامِعِ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْعُقُوقِ