أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ جَعَلَهَا جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ جَوَابًا عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِينَ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدُّخان: 12] تَكْذِيبًا لِوَعْدِهِمْ، أَيْ هُمْ لَا يَتَذَكَّرُونَ، وَكَيْفَ يَتَذَكَّرُونَ وَقَدْ جَاءَهُمْ مَا هُوَ أَقْوَى دَلَالَةً مِنَ الْعَذَابِ وَهِيَ دَلَائِلُ صدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي انْتَزَعْنَاهُ مِنْ تَرْكِيبِ الْآيَةِ فَهِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [الدُّخان: 9] وَهِيَ كَالنَّتِيجَةِ لَهَا لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ فَقَدْ صَارُوا بُعَدَاءَ عَنِ الذِّكْرَى.
وأَنَّى اسْمُ اسْتِفْهَامٍ أَصْلُهُ اسْتِفْهَامٌ عَنْ أَمْكِنَةِ حُصُولِ الشَّيْءِ وَيَتَوَسَّعُونَ فِيهَا فَيَجْعَلُونَهَا اسْتِفْهَامًا عَنِ الْأَحْوَالِ بِمَعْنَى (كَيْفَ) بِتَنْزِيلِ الْأَحْوَالِ مَنْزِلَةَ ظُرُوفٍ فِي مَكَانٍ كَمَا هُنَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. وَالْمَعْنَى: مِنْ أَيْنَ تَحْصُلُ لَهُمُ الذِّكْرَى وَالْمَخَافَةُ عِنْدَ ظُهُورِ الدُّخَانِ الْمُبِينِ وَقَدْ سُدَّتْ عَلَيْهِمْ طُرُقُهَا بِطَعْنِهِمْ فِي الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَتَاهُمْ بِالتَّذْكِيرِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ وَالْإِحَالَةِ، أَيْ كَيْفَ يَتَذَكَّرُونَ وَهُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ وَطَعَنُوا فِيهِ. فَجُمْلَةُ وَقَدْ جاءَهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
ومُبِينٌ اسْمُ فَاعِلٍ إِمَّا مِنْ أَبَانَ الْمُتَعَدِّي، وَحُذِفَ مَفْعُولُهُ لِدَلَالَةِ الذِّكْرى عَلَيْهِ، أَيْ مُبِينٌ لَهُمْ مَا بِهِ يَتَذَكَّرُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَبَانَ الْقَاصِرِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى بَانَ، أَيْ رَسُولٌ ظَاهِرٌ، أَيْ ظَاهِرَةٌ رِسَالَتُهُ عَنِ اللَّهِ بِمَا تَوَفَّرَ مَعَهَا مِنْ دَلَائِلِ صِدْقِهِ.
وَإِيثَارُ مُبِينٌ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ عَلَى مُبِينٌ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ نُكَتِ الْإِعْجَازِ لِيُفِيدَ الْمَعْنَيَيْنِ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ وَهُوَ تَرَقٍّ مِنْ مَفَادِ قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [الدُّخان: 9] الَّذِي اتَّصَلَتْ بِهِ جُمْلَةٌ كَانَتْ جُمْلَةُ وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهَا.