نَقْلِ هَذَا الدِّينِ إِلَى الْأُمَمِ، وَهَذِهِ الْمَزِيَّةُ يَنَالُهَا كل من تعلّم اللِّسَانَ الْعَرَبِيَّ كَغَالِبِ الْأُمَمِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَبِذَلِكَ كَانَ تَبْلِيغُ الْإِسْلَامِ بِوَاسِطَةِ أُمَّةٍ كَامِلَةٍ فَيَكُونُ نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا، وَيَسْهُلُ انْتِشَارُهُ سَرِيعًا.
وَالرَّسُولُ الْمُرْسَلُ فَهُوَ فَعُولٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ مِثْلُ ذَلُولٍ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مُطَابَقَةِ مَوْصُوفِهِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: قُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
[الشُّعَرَاء: 16] فِي سُورَةِ الشُّعَرَاء.
وَقَوله: يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا أَيْ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ الْقُرْآنَ وَسَمَّاهُ أَوَّلًا آيَاتٍ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ كُلِّ كَلَامٍ مِنْهُ مُعْجِزَةً، وَسَمَّاهُ ثَانِيًا كِتَابًا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ كِتَابَ شَرِيعَةٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [الْبَقَرَة: 129] . عبر بيتلو لِأَنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ مُسْتَمِرٌّ وَقِرَاءَةُ النَّبِيءِ لَهُ مُتَوَالِيَةٌ وَفِي كُلِّ قِرَاءَةٍ يَحْصُلُ عِلْمٌ بِالْمُعْجِزَةِ لِلسَّامِعِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَيُزَكِّيكُمْ إِلَخْ التَّزْكِيَةُ تَطْهِيرُ النَّفْسِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الزَّكَاةِ وَهِيَ النَّمَاءُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي أَصْلِ خِلْقَةِ النُّفُوسِ كَمَالَاتٍ وَطَهَارَاتٍ تَعْتَرِضُهَا أَرْجَاسٌ نَاشِئَةٌ عَنْ ضَلَالٍ أَوْ تَضْلِيلٍ، فَتَهْذِيبُ النُّفُوسِ وَتَقْوِيمُهَا يَزِيدُهَا مِنْ ذَلِكَ الْخَيْرِ الْمُودَعِ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّين: 4- 6] ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ حُسْنَ الْأَخْلَاقِ»
، فَفِي الْإِرْشَادِ إِلَى الصَّلَاحِ وَالْكَمَالِ نَمَاءٌ لِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي النُّفُوسِ مِنَ الْخَيْرِ فِي الْفِطْرَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ أَيْ يعلمكم الشَّرِيعَة فالكاب هُنَا هُوَ الْقُرْآنُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ كِتَابَ تَشْرِيعٍ لَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُعْجِزًا وَيُعَلِّمُكُمْ أُصُولَ الْفَضَائِلِ، فَالْحِكْمَةُ هِيَ التَّعَالِيمُ الْمَانِعَةُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْخَطَأِ وَالْفَسَادِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ وَسَيَأْتِي أَيْضًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: 269] فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَقُدِّمَتْ جُمْلَةُ: وَيُزَكِّيكُمْ عَلَى جُمْلَةِ: وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ هُنَا عَكْسُ مَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فِي حِكَايَةِ قَول إِبْرَاهِيم: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [الْبَقَرَة: 129] ، لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا لِلِامْتِنَانِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَدَّمَ فِيهَا مَا يُفِيدُ مَعْنَى الْمَنْفَعَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ عَلَيْهِمْ وَهِيَ مَنْفَعَةُ تَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمُ اهْتِمَامًا بِهَا وَبَعْثًا لَهَا بِالْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ