إِلَيْهِمْ بَعْدَ تِلْكَ الْأَوْصَافِ أَحْرِيَاءُ بِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهَا مِنَ الْحِكَمِ مِنْ أَجْلِهَا نَظِيرُ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: 5] .
وَيَتَعَلَّقُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ بِ يُنادَوْنَ. وَإِذَا كَانَ النِّدَاءُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ كَانَ الْمُنَادَى (بِالْفَتْحِ) فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ لَا مَحَالَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَعَلُّقِ مِنَ الْأَرْضِ، بِقَوْلِهِ: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ [الرّوم: 25] أَيْ دَعَاكُمْ مِنْ مَكَانِكُمْ فِي الأَرْض، ويذلك يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يُنادَوْنَ وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَأَتٍّ فِي قَوْلِهِ: إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ.
[45]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ.
اعْتِرَاضٌ بتسلية للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ وَكُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَوْحَدَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ أُوتِيَ مُوسَى التَّوْرَاةَ فَاخْتَلَفَ الَّذِينَ دَعَاهُمْ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ.
وَالْمَقْصُودُ الِاعْتِبَارُ بِالِاخْتِلَافِ فِي التَّوْرَاةِ فَإِنَّهُ أَشَدُّ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الْقُرْآنِ فَالِاخْتِلَافُ فِي التَّوْرَاةِ كَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ: اخْتِلَافٌ فِيهَا بَيْنَ مُؤْمِنٍ بِهَا وَكَافِرٍ، فَقَدْ كَفَرَ بِدَعْوَةِ مُوسَى فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَبَعْضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلُ قَارُونَ وَمِثْلُ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ فِي مَغِيبِ مُوسَى لِلْمُنَاجَاةِ، وَاخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا اخْتِلَافًا عَطَّلُوا بِهِ بَعْضَ أَحْكَامِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ [الْبَقَرَة: 253] ، وَكِلَا الِاخْتِلَافَيْنِ مَوْضِعُ عِبْرَةٍ وَأُسْوَةٍ لِاخْتِلَافِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ. وَهَذَا مَا عَصَمَ اللَّهُ الْقُرْآنَ مِنْ مِثْلِهِ إِذْ قَالَ: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [يُوسُف: 12] فالتسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا أَوْقَعُ، وَهَذَا نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ آنِفًا: مَا يُقالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت: 43] عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ مَعْنَيَيْهِ بِذِكْرِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعُمُومِ وَهُوَ الْأَعْظَمُ الْأَهَمُّ.
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِالَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ مِنَ الْعَرَبِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يَقْتَضِي