مَعَ أُمَمِهِمْ لَا يُعْدَمُونَ مُعَانِدِينَ جَاحِدِينَ يَكْفُرُونَ بِمَا جَاءُوا بِهِ. وَإِذَا بُنِيَتْ عَلَى مَا جَوَّزْتُهُ سَابِقًا أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ: مَا يُقالُ خبر إِنَّ [فصلت: 41] كَانَتْ خَبَرًا وَلَيْسَتِ اسْتِئْنَافًا.
وَهَذَا تَسْلِيَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ وَأَمْرٌ لَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا صَبَرَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الرُّسُلِ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ. وَلِهَذَا الْكَلَامِ تَفْسِيرَانِ:
أَحَدَهُمَا: أَنْ مَا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ فِي الْقُرْآن والنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ دَأْبُ أَمْثَالِهِمُ الْمُعَانِدِينَ من قبلهم فَمَا صدق مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ هُوَ مَقَالَاتُ الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ، أَيْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُ الْمُكَذِّبِينَ فَكَانَتْ مَقَالَاتُهُمْ مُتَمَاثِلَةً قَالَ تَعَالَى: أَتَواصَوْا بِهِ [الذاريات: 53] .
التَّفْسِيرُ الثَّانِي: مَا قُلْنَا لَكَ إِلَّا مَا قُلْنَاهُ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، فَأَنْتَ لَمْ تَكُنْ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ فَيَكُونُ لِقَوْمِكَ بَعْضُ الْعُذْرِ فِي التَّكْذِيبِ وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا كَمَا كَذَّبَ الَّذِينَ من قبلهم، فَمَا صدق: مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ هُوَ الدِّينُ وَالْوَحْيُ فَيَكُونُ مِنْ طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى [الْأَعْلَى: 18] . وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ فَيُحْمَلُ الْكَلَامُ عَلَى كِلَيْهِمَا.
وَفِي التَّعْبِير ب مَا الْمَوْصُولَةِ وَفِي حَذْفِ فَاعِلِ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: مَا يُقالُ
وَقَوْلِهِ: مَا قَدْ قِيلَ نَظْمٌ مَتِينٌ حَمَّلَ الْكَلَامَ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَالْمَعْنَى: إِلَّا مِثْلَ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ.
وَاجْتِلَابُ الْمُضَارِعِ فِي مَا يُقالُ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ وَعَدَمِ ارْعِوَائِهِمْ عَنْهُ مَعَ ظُهُورِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَصُدَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ.
واقتران الْفِعْل ب قَدْ لِتَحْقِيقِ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مثل مَا قَالَ الْمُشْركُونَ للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلَازِمِ الْخَبَرِ وَهُوَ لُزُومُ الصَّبْرِ عَلَى قَوْلِهِمْ. وَهُوَ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى حَالِ الْمَرْدُودِ عَلَيْهِمْ إِذْ حَسِبُوا أَنَّهُمْ جَابَهُوا الرَّسُولَ بِمَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: 52، 53] .