وَجَعَلُوا حَالَهُ سِحْرًا وَكَذِبًا لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ تَقْبَلْ عُقُولُهُمْ مَا كَلَّمَهُمْ بِهِ زَعَمُوا مَا لَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ- مِثْلَ كَوْنِ الْإِلَهِ وَاحِدًا أَوْ كَوْنِهِ يُعِيدُ الْمَوْتَى أَحْيَاءً- سِحْرًا إِذْ كَانُوا يَأْلَفُونَ مِنَ السِّحْرِ أَقْوَالًا غَيْرَ مَفْهُومَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [102] . وَزَعَمُوا مَا يَفْهَمُونَهُ وَيُحِيلُونَهُ مِثْلَ ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ كَذِبًا. وَبَيَّنُوا ذَلِكَ بِجُمْلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، وَالثَّانِيَةُ جُمْلَةُ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: 8] .
فَجُمْلَةُ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً بَيَانٌ لِجُمْلَةِ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ، أَيْ حَيْثُ عَدُّوهُ مُبَاهِتًا لَهُمْ بِقَلْبِ الْحَقَائِقِ وَالْأَخْبَارِ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ.
وَالْهَمْزَةُ للاستفهام الإنكاري التعجيبي وَلِذَلِكَ أَتْبَعُوهُ بِمَا هُوَ كَالْعِلَّةِ لِقَوْلِهِمْ:
ساحِرٌ وَهُوَ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ أَيْ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ كَمَا يُتَعَجَّبُ مِنْ شَعْوَذَةِ السَّاحِرِ.
وعُجابٌ: وَصْفُ الشَّيْءِ الَّذِي يُتَعَجَّبُ مِنْهُ كَثِيرًا لِأَنَّ وَزْنَ فُعَالٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِثْلَ: طُوَالٌ، بِمَعْنَى الْمُفْرِطِ فِي الطُّولِ، وَكُرَامٌ بِمَعْنَى الْكَثِيرِ الْكَرَمِ، فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ كَرِيمٍ، وَقَدِ ابْتَدَأُوا الْإِنْكَارَ بِأَوَّلِ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ كُفْرِهِمْ فَإِنَّ أُصُولَ كُفْرِهِمْ ثَلَاثَةٌ: الْإِشْرَاكُ، وَتَكْذيب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْكَارُ الْبَعْثِ، وَالْجَزَاءِ فِي الْآخِرَة.
[6- 7]
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7)
الِانْطِلَاقُ حَقِيقَتُهُ: الِانْصِرَافُ وَالْمَشْيُ، وَيُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ أَفْعَالِ الشُّرُوعِ لِأَنَّ الشَّارِعَ يَنْطَلِقُ إِلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ فِي ذَلِكَ: ذَهَبَ بِفِعْلِ كَذَا، كَمَا فِي قَوْلِ النَّبَهَانِيِّ:
فَإِنْ كُنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا ... وَإِنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فَاذْهَبْ فَخَلْ