فِي الْمَعْنَى بِعِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَوْلَادَ اللَّهِ تَعَالَى، وَعُطِفَ عَلَيْهِ أَنهم يتبرأون مِنْ ذَلِكَ فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ قَوْلًا مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ مَا بَعْدَ الْوَاوِ لَا يَصْلُحُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَلَامَ قَائِلٍ. وَالتَّقْدِيرُ: وَيَقُولُونَ مَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْفَقُ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَقَوْلِهِ: الصَّافُّونَ الْمُسَبِّحُونَ:
الشَّائِعُ وَصْفُ الْمَلَائِكَةِ بِأَمْثَالِهَا فِي الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَصْفُهُمْ بِالصَّافَّاتِ،
وَوَصْفُهُمْ بِالتَّسْبِيحِ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الشورى: 5] ، وَذِكْرُ مَقَامَاتِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 20، 21] وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى [النَّجْم: 13، 14] .
وَفِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مَثَلًا حَدِيثُ الْإِسْرَاءِ أَنَّ جِبْرِيلَ وَجَدَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ مَلَكًا يَسْتَأْذِنُهُ جِبْرِيلُ أَنْ يَدْخُلَ تِلْكَ السَّمَاءَ وَيَسْأَلُهُ الْمَلَكُ: مَنْ أَنْتَ؟ وَمَنْ مَعَكَ؟ وَهَلْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ فَإِذَا قَالَ: نَعَمْ، فَتَحَ لَهُ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّ قَوْلَهُ: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ إِلَى الْمُسَبِّحُونَ نَزَلَ وَرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَتَأَخَّرَ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ: أَهُنَا تُفَارِقُنِي فَقَالَ:
لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَقَدَّمَ عَنْ مَكَانِي وَأَنْزَلَ اللَّهُ حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ الْآيَتَيْنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِمَّا أَمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ لِلْمُشْرِكِينَ عَطْفًا عَلَى التَّفْرِيعِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ [الصافات: 161] إِلَى آخِرِهِ وَيَتَّصِلُ الْكَلَامُ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ [الصافات: 149] إِلَى هُنَا. وَالْمَعْنَى: مَا أَنْتُم بفاتنينا فِتْنَةَ جَرَاءَةٍ عَلَى رَبِّنَا فَنَقُولُ مِثْلَ قَوْلِكُمُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَالْجِنُّ أَصْهَارُ اللَّهِ فَمَا مِنَا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ لَا يَتَجَاوَزُهُ وَهُوَ مَقَامُ الْمَخْلُوقِيَّةِ لِلَّهِ وَالْعُبُودِيَّةِ لَهُ.
وَالْمَنْفِيُّ بِ مَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ وَصْفُهُ بِقَوْلِهِ: مِنَّا. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَحَدٌ مِنَّا كَمَا فِي قَوْلِ سُحَيْمِ بْنِ وَثِيلٍ:
أَنَا ابْنُ جَلَا وَطَلَاعِ الثَّنَايَا ... مَتَى أَضَعُ الْعِمَامَةَ تَعْرِفُونِي