رِجَالَ حَرَمِهِ وَسَدَنَةَ بَيْتِهِ» فَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ [التَّوْبَة: 19] . وَقَالَ تَعَالَى: وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الْأَنْفَال: 34] وَقَالَ:
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيءُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمرَان: 68] .
وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَثَلًا لحَال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَبَاتِهِ عَلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَفِيمَا لَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ يُهَاجِرُ مِنْ أَرْضِ الشِّرْكِ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِيهِ فِي هِجْرَتِهِ وَيَهَبُ لَهُ أُمَّةً عَظِيمَةً كَمَا وَهَبَ إِبْرَاهِيمَ أَتْبَاعًا، فَقَالَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النَّحْل: 120] .
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ مَثَلٌ لحَال النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ مَنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَلِحَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أهل مَكَّة.
[114- 116]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ [الصافات: 75] ، وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ مَا ذُكِرَ هُنَالِكَ.
وَذَكَرَ هُنَا مَا كَانَ مِنَّةً عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَهُوَ النُّبُوءَةُ فَإِنَّهَا أَعْظَمُ دَرَجَةٍ يُرْفَعُ إِلَيْهَا
الْإِنْسَانُ، وَلِذَلِكَ اكْتُفِيَ عَنْ تَعْيِينِ الْمَمْنُونِ بِهِ لِحَمْلِ الْفِعْلِ عَلَى أَكْمَلِ مَعْنَاهُ. وَجُعِلَتْ مِنَّةً مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَسْأَلِ النُّبُوءَةَ إِذْ لَيْسَتِ النُّبُوءَةُ بِمُكْتَسَبَةٍ وَكَانَتْ مِنَّةً عَلَى هَارُونَ أَيْضًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَ لَهُ مُوسَى ذَلِكَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ هَارُونَ، فَهِيَ مِنَّةٌ عَلَيْهِ وَإِرْضَاءٌ لِمُوسَى، وَالْمِنَّةُ عَلَيْهِمَا مِنْ قَبِيلِ إِيصَالِ الْمَنَافِعِ فَإِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مُوسَى لِإِنْقَاذِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ اسْتِعْبَادِ الْقِبْطِ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ.
وَفِي اخْتِلَافِ مَبَادِئِ الْقَصَصِ الثَّلَاثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يَغْضَبُ لِأَوْلِيَائِهِ إِمَّا بِاسْتِجَابَةِ دَعْوَةٍ، وَإِمَّا لِجَزَاءٍ عَلَى سَلَامَةِ طَوِيَّةٍ وَقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَإِمَّا لِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَمِنَّةٍ عَلَى عِبَادِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ. وَإِنْجَاءُ مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمِهِمَا كَرَامَةٌ أُخْرَى لَهُمَا وَلِقَوْمِهِمَا بِسَبَبِهِمَا، وَهَذِهِ نِعْمَةُ إِزَالَةِ الضُّرِّ، فَحَصَلَ لِمُوسَى وَهَارُونَ نَوْعَا الْإِنْعَامِ وَهُمَا: إِعْطَاءُ الْمَنَافِعِ، وَدَفْعُ الْمَضَارِّ.