هَذَا مِنْ جَانِبِ نَظْمِ الشِّعْرِ وَمَوَازِينِهِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا جَانِبُ قِوَامِ الشِّعْرِ وَمَعَانِيهِ فَإِنَّ لِلشِّعْرِ طَرَائِقَ مِنَ الْأَغْرَاضِ كَالْغَزَلِ وَالنَّسِيبِ وَالْهِجَاءِ وَالْمَدِيحِ وَالْمُلَحِ، وَطَرَائِقٌ مِنَ الْمَعَانِي كَالْمُبَالَغَةِ الْبَالِغَةِ حَدَّ الْإِغْرَاقِ وَكَادِّعَاءِ الشَّاعِرِ أَحْوَالًا لِنَفْسِهِ فِي غَرَامٍ أَوْ سَيْرٍ أَوْ شَجَاعَةٍ هُوَ خُلُوٌّ مِنْ حَقَائِقِهَا فَهُوَ كَذِبٌ مُغْتَفَرٌ فِي صِنَاعَةِ الشِّعْرِ. وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِأَرْفَعِ مَقَامٍ لِكِمَالَاتِ النَّفْسِ، وَهُوَ مَقَامُ أَعْظَمِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ فَلَوْ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَضَ الشِّعْرَ وَلَمْ يَأْتِ فِي شِعْرِهِ بِأَفَانِينِ الشُّعَرَاءِ لَعُدَّ غَضَاضَةً فِي شِعْرِهِ وَكَانَتْ تِلْكَ الْغَضَاضَةُ دَاعِيَةً لِلتَّنَاوُلِ مِنْ حُرْمَةِ كَمَالِهِ فِي أَنْفُسِ قَوْمِهِ يَسْتَوِي فِيهَا الْعَدُوُّ وَالصَّدِيقُ. عَلَى أَنَّ الشُّعَرَاءَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانَتْ أَحْوَالُهُمْ غَيْرَ مُرْضِيَّةٍ عِنْدَ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ وَالشَّرَفِ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْخَلَاعَةِ
وَالْإِقْبَالِ عَلَى السُّكْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالنِّسَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَحَسْبُكَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ قَضِيَّةِ خَلْعِ حُجْرٍ الْكِنِدِيِّ ابْنَهُ امْرَأَ الْقَيْسِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشُّعَرَاء: 224] الْآيَةَ. فَلَوْ جَاءَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشِّعْرِ أَوْ قَالَهُ لَرَمَقَهُ النَّاسُ بِالْعَيْنِ الَّتِي لَا يُرْمَقُ بِهَا قَدْرُهُ الْجَلِيلُ وَشَرَفُهُ النَّبِيلُ، وَالْمَنْظُورُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ هُوَ الْغَالِبُ الشَّائِعُ وَإِلَّا فقد قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً» وَقَالَ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ» فَتَنْزِيهُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ الشِّعْرِ مِنْ قَبِيلِ حِيَاطَةِ مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ وَحِيَاطَةِ مَقَامِ الرِّسَالَةِ مِثْلِ تَنْزِيهِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْكِتَابَةِ.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ مِنْ عَيْبِ الشِّعْرِ كَمَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ