وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ
[4] ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ انْسِلَاخَ النَّهَارِ عَلَى اللَّيْلِ أَمْرٌ مُسَخَّرٌ لَا قِبَلَ لِلَّيْلِ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ.
وَلَا يَسْتَقِيمُ تَفْسِيرُ السَّبْقِ هُنَا بِمَعْنَاهُ الْمَشْهُورِ وَهُوَ الْأَوَّلِيَّةُ بِالسَّيْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي تَدَاوُلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسَّبْقِ ابْتِدَاءَ التَّكْوِينِ إِذْ لَا يُتَعَلَّقُ بِذَلِكَ غَرَضٌ مُهِمٌّ فِي الْآيَةِ، عَلَى أَنَّ الشَّأْنَ أَنْ تَكُونَ الظُّلْمَةُ أَسْبَقَ فِي التَّكْوِينِ. وَالْغَرَضُ التَّذْكِيرُ بِنِعْمَةِ اللَّيْلِ وَنِعْمَةِ النَّهَارِ فَإِنَّ لِكِلَيْهِمَا فَوَائِدَ لِلنَّاسِ فَلَوْ تَخَلَّصَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ فَاسْتَقَرَّ فِي الْأُفُقِ لَتَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ جَمَّةٌ مِنْ حَيَاةِ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ.
وَفِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءٌ، أَيْ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: وَلَا الْقَمَرُ يُدْرِكُ الشَّمْسَ، وَلَا النَّهَارُ سَابِقُ اللَّيْلِ.
وَقَوْلُهُ: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ. وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْإِخْبَارِ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ عَلَى جَانِبِ التَّذْيِيلِ، وَإِلَّا فَحَقُّ التَّذْيِيلِ الْفَصْلُ. وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ كُلٌّ مَحْذُوفٍ، وَتَنْوِينُ كُلٌّ تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ، فَالتَّقْدِيرُ: وَكُلُّ الْكَوَاكِبِ.
وَزِيدَتْ قَرِينَةُ السِّيَاقِ تَأْكِيدًا بِضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: يَسْبَحُونَ مَعَ أَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ قَبْلُ شَيْئَانِ لَا أَشْيَاءَ، وَبِهَذَا التَّعْمِيمِ صَارَتِ الْجُمْلَةُ فِي مَعْنَى التَّذْيِيلِ.
وَالْفَلَكُ: الدَّائِرَةُ الْمَفْرُوضَةُ فِي الْخَلَاءِ الْجَوِّيِّ لِسَيْرِ أَحَدِ الْكَوَاكِبِ سَيْرًا مُطَّرِدًا لَا يَحِيدُ عَنْهُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْأَرْصَادِ الْأَقْدَمِينَ لَمَّا رَصَدُوا تِلْكَ الْمَدَارَاتِ وَجَدُوهَا لَا تَتَغَيَّرُ وَوَجَدُوا نِهَايَتَهَا تَتَّصِلُ بِمُبْتَدَاهَا فَتَوَهَّمُوهَا طَرَائِقَ مُسْتَدِيرَةً تَسِيرُ فِيهَا الْكَوَاكِبُ كَمَا تَتَقَلَّبُ الْكُرَةُ عَلَى الْأَرْضِ وَرُبَّمَا تَوَسَّعُوا فِي التَّوَهُّمِ فَظَنُّوهَا طَرَائِقَ صَلْبَةً تَرْتَكِزُ عَلَيْهَا الْكَوَاكِبُ فِي سَيرهَا وَبَعض الْأُمَم يتوهمون الشَّمْس فِي سَيْرِهَا مَجْرُورَةً بِسَلَاسِلَ وَكَلَالِيبَ وَكَانَ ذَلِكَ فِي مُعْتَقَدِ الْقِبْطِ بِمِصْرَ.