عُقُولَهُمْ مِنَ النُّفُورِ عَنِ الْخَيْرِ، فَحَقَّقَ فِي عِلْمِهِ وَكَتَبَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ انْتِفَاءِ إِيمَانِ أَكْثَرِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي حَقَّ عَلَى أَكْثَرِهِمْ.
وحَقَّ: بِمَعْنَى ثَبَتَ وَوَقَعَ فَلَا يَقْبَلُ نَقْضًا. والْقَوْلُ: مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ فَهُوَ قَوْلٌ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، أَوْ مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى رُسُلِهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَالْمَقُولُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ تَفْرِيعِهِ عَلَيْهِ.
وَالتَّقْدِيرُ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ، أَيِ الْقَوْلُ النَّفْسِيُّ وَهُوَ الْمَكْتُوبُ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَهُمْ لَا يُؤمنُونَ.
[8]
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس: 7] فَإِنَّ انْتِفَاءَ إِيمَانِهِمْ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ جَعْلِ أَغْلَالٍ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَقِيقَةً أَوْ تَمْثِيلًا.
وَالْجَعْلُ: تَكْوِينُ الشَّيْءِ، أَيْ جَعَلْنَا حَالَهُمْ كَحَالِ مَنْ فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالٌ فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمِحُونَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا بِأَنْ شُبِّهَتْ حَالَةُ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ وَدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَالتَّأَمُّلِ فِي حُجَجِهِ الْوَاضِحَةِ بِحَالِ قَوْمٍ جُعِلَتْ فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالٌ غَلِيظَةٌ تَرْتَفِعُ إِلَى أَذْقَانِهِمْ فَيَكُونُونَ كَالْمُقْمَحِينَ، أَي الرافعين رؤوسهم الْغَاضِّينَ أَبْصَارَهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا فَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا حَوْلَهُمْ فَتَكُونُ تَمْثِيلِيَّةً.
وَذَكَرَ فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ لِتَحْقِيقِ كَوْنِ الْأَغْلَالِ مَلْزُوزَةً إِلَى عِظَامِ الْأَذْقَانِ بَحَيْثُ إِذَا أَرَادَ الْمَغْلُولُ مِنْهُمُ الِالْتِفَاتَ أَو أَن يطاطىء رَأْسَهُ وَجِعَهُ ذَقَنُهُ فَلَازَمَ السُّكُونَ وَهَذِهِ حَالَةُ تَخْيِيلِ هَذِهِ الْأَغْلَالِ وَلَيْسَ كُلُّ الْأَغْلَالِ مِثْلَ هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَهَذَا التَّمْثِيلُ قَابِلٌ لِتَوْزِيعِ أَجْزَاءِ الْمَرْكَّبِ التَّمْثِيلِيِّ إِلَى تَشْبِيهِ كُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْحَالَيْنِ بِجُزْءٍ مِنَ الْحَالَةِ الْأُخْرَى بِأَنْ يُشَبَّهَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ النُّفُورِ عَنِ الْخَيْرِ بِالْأَغْلَالِ، وَيُشَبَّهُ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ التَّأَمُّلِ وَالْإِنْصَافِ بِالْإِقْمَاحِ.