وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
عُطِفَ عَلَى الْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ نَظَائِرُ هَذِهِ وَهِيَ جُمَلُ فَزِعُوا وأُخِذُوا وقالُوا [سبأ:
51، 52] أَيْ وَحَالَ زَجُّهُمْ فِي النَّارِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَأْمَلُونَهُ مِنَ النَّجَاةِ بِقَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِهِ [سبأ:
52] . وَمَا يَشْتَهُونَهُ هُوَ النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ أَوْ عَوْدَتُهُمْ إِلَى الدُّنْيَا فَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ تَمَنَّوْهُ فَقالُوا يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْعَام:
27] ، «رَبنَا أرجعنا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» .
وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ تَشْبِيهٌ لِلْحَيْلُولَةِ بِحَيْلُولَةٍ أُخْرَى وَهِيَ الْحَيْلُولَةُ بَيْنَ بَعْضِ الْأُمَمِ وَبَيْنَ الْإِمْهَالِ حِينَ حَلَّ بِهِمْ عَذَابُ الدُّنْيَا، مِثْلَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِذْ قَالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يُونُس: 90] ، وَكَذَلِكَ قَوْمُ نُوحٍ حِينَ رَأَوُا الطُّوفَانَ، وَمَا مِنْ أُمَّةٍ حَلَّ بِهَا عَذَابٌ إِلَّا وَتَمَنَّتِ الْإِيمَانَ حِينَئِذٍ فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ.
وَالْأَشْيَاعُ: الْمُشَابِهُونَ فِي النِّحْلَةِ وَإِنْ كَانُوا سَالِفِينَ. وَأَصْلُ الْمُشَايَعَةِ الْمُتَابَعَةُ فِي الْعَمَلِ وَالْحِلْفِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى مُطْلَقِ الْمُمَاثِلَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلُ، أَيْ كَمَا فُعِلَ بِأَمْثَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ قَبْلُ، وَأَمَّا يَوْمُ الْحَشْرِ فَإِنَّمَا يُحَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ وَكَذَلِكَ أَشْيَاعُهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
وَفَائِدَةُ هَذَا التَّشْبِيهِ تَذْكِيرُ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَهُمْ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ مِنْ قبلهم ليوقنوا أَنه سُنَّةَ اللَّهِ وَاحِدَةٌ وَأَنَّهُمْ لَا تَنْفَعُهُمْ أَصْنَامُهُمُ الَّتِي زَعَمُوهَا شُفَعَاءَ عِنْدَ اللَّهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَفُعِلَ بِهِمْ جَمِيعُ مَا سَمِعْتَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي حَيَاتِهِمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَا وُصِفَ لَهُمْ مِنْ أَهْوَالِهِ.
وَإِنَّمَا جُعِلَتْ حَالَتُهُمْ شَكًّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ شَاكِّينَ وَفِي بَعْضِهَا مُوقِنِينَ،
أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: 32] . وَإِذَا كَانَ الشَّكُّ مُفْضِيًا إِلَى تِلْكَ الْعُقُوبَةِ فَالْيَقِينُ أَوْلَى بِذَلِكَ، وَمَآلُ