وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَنْ آمَنُوا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لِأَنَّهُمْ أُوتُوا الْقُرْآنَ. وَفِيهِ عِلْمٌ عَظِيمٌ هُمْ عَالِمُوهُ عَلَى تَفَاضُلِهِمْ فِي فَهْمِهِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ، فَقَدْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَكُونُ فَظًّا غَلِيظًا حَتَّى إِذَا أَسْلَمَ رَقَّ قَلْبُهُ وَامْتَلَأَ صَدْرُهُ بِالْحِكْمَةِ وَانْشَرَحَ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَاهْتَدَى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ. وَأَوَّلُ مِثَالٍ لِهَؤُلَاءِ وَأَشْهُرُهُ وَأَفْضَلُهُ هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلْبَوْنِ الْبَعِيدِ بَيْنَ حَالَتَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ. وَهَذَا
مَا أَعْرَبَ عَنْهُ قَوْلُ أَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيِّ خَالِطًا فِيهِ الْجَدَّ بِالْهَزْلِ:
وَعَادَ الْفَتَى كَالْكَهْلِ لَيْسَ بِقَائِلٍ ... سِوَى الْعَدْلِ شَيْئًا فَاسْتَرَاحَ الْعَوَاذِلُ
فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا لَقُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْوَارُ النُّبُوءَةِ فَمَلَأَتْهُمْ حِكْمَةً وَتَقْوَى.
وَقَدْ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدِ أَصْحَابِهِ: «لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا تَكُونُونَ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا»
. وَبِفَضْلِ ذَلِكَ سَاسُوا الْأُمَّةَ وَافْتَتَحُوا الْمَمَالِكَ وَأَقَامُوا الْعَدْلَ بَيْنَ النَّاسِ مُسْلِمِهِمْ وَذِمِّيِّهِمْ وَمُعَاهِدِهِمْ وَمَلَأُوا أَعْيُنَ مُلُوكِ الْأَرْضِ مَهَابَةً. وَعَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ حُمِلَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [54] وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ فِي سُورَةِ الرُّومِ [56] .
وَجُمْلَةُ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ فِي مَوْضِعِ الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِ يَرَى. وَالْمَعْنَى: يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هَادِيًا إِلَى الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ الَّذِي فِيهِ مَادَّةُ الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ الْحَقَّ فَإِنَّ الْمَصْدَرَ فِي قُوَّةِ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ إِمَّا مُشْتَقٌّ أَوْ هُوَ أَصْلُ الِاشْتِقَاقِ. وَالْعُدُولُ عَنِ الْوَصْفِ إِلَى صِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِإِشْعَارِهَا بِتَجَدُّدِ الْهِدَايَةِ وَتَكَرُّرِهَا. وَإِيثَارُ وَصْفَيْ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ هُنَا دُونَ بَقِيَّةِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْحَقُّ وَالْهِدَايَةُ اسْتَشْعَرُوا مِنَ الْإِيمَانِ أَنَّهُ صِرَاطٌ يَبْلُغُ بِهِ إِلَى الْعِزَّةِ قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المُنَافِقُونَ: 8] ، وَيَبْلُغُ إِلَى الْحَمْدِ، أَيِ الْخِصَالِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَمْدِ، وَهِيَ الْكَمَالَاتُ مِنَ الْفَضَائِل والفواضل.