وَتَخَلَّصَ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ الْعَامِّ إِلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ فِي خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ دَقَائِقُ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ وَأَعْظَمُهَا الْعَقْلُ.
والْإِنْسانِ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ، وَبَدْءُ خَلْقِهِ هُوَ خَلْقُ أَصْلِهِ آدَمَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْأَعْرَاف: 11] ، أَيْ: خَلَقْنَا أَبَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاهُ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى هُنَا قَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ فَإِن ذَلِك بدىء مِنْ أَوَّلِ نَسْلٍ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خَلْقُ آدَمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ طِينٍ ابْتِدَائِيَّةٌ.
وَالنَّسْلُ: الْأَبْنَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ. سُمِّيَ نَسْلًا لِأَنَّهُ يَنْسَلُّ، أَيْ: يَنْفَصِلُ مِنْ أَصْلِهِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ نَسَلَ الصُّوفُ وَالْوَبَرُ إِذَا سَقَطَ عَنْ جِلْدِ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ مِنْ بَابَيْ كَتَبَ وَضَرَبَ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ سُلالَةٍ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَسُمِّيَتِ النُّطْفَةُ الَّتِي يَتَقَوَّمُ مِنْهَا تَكْوِينُ الْجَنِينِ سُلَالَةً كَمَا فِي الْآيَةِ لِأَنَّهَا تَنْفَصِلُ عَنِ الرَّجُلِ، فَقَوْلُهُ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ بَيَانٌ لِ سُلالَةٍ. ومِنْ بَيَانِيَّةٌ فَالسُّلَالَةُ هِيَ الْمَاءُ الْمَهِينُ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِمُتَعَارَفِ النَّاسِ وَلَكِنْ فِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ عِلْمِيٌّ لَمْ يُدْرِكْهُ النَّاسُ إِلَّا فِي هَذَا الْعَصْرِ وَهُوَ أَنَّ النُّطْفَةَ يَتَوَقَّفُ تَكَوُّنُ الْجَنِينِ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ يَتَكَوَّنُ مِنْ ذَرَّاتٍ فِيهَا تَخْتَلِطُ مَعَ سُلَالَةٍ مِنَ الْمَرْأَةِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَذْهَبُ فَضْلُهُ، فَالسُّلَالَةُ الَّتِي تَنْفَرِزُ مِنَ الْمَاءِ الْمَهِينِ هِيَ النَّسْلُ لَا جَمِيعُ الْمَاءِ الْمَهِينِ، فَتَكُونُ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِلِابْتِدَاءِ.
وَالْمَهِينُ: الشَّيْءُ الْمُمْتَهَنُ الَّذِي لَا يُعْبَأُ بِهِ. وَالْغَرَضُ مِنْ إِجْرَاءِ هَذَا الْوَصْفِ عَلَيْهِ الِاعْتِبَارُ بِنِظَامِ التَّكْوِينِ إِذْ جَعَلَ اللَّهُ تَكْوِينَ هَذَا الْجِنْسِ الْمُكْتَمِلِ التَّرْكِيبِ الْعَجِيبِ الْآثَارِ مِنْ نَوْعِ مَاءٍ مِهْرَاقٍ لَا يُعْبَأُ بِهِ وَلَا يُصَانُ.
وَالتَّسْوِيَةُ: التَّقْوِيمُ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التِّين: 4] .
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي سَوَّاهُ عَائِدٌ إِلَى نَسْلَهُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ وَلِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْعَطْفِ بِ ثُمَّ وَإِنْ كَانَ آدَمُ قَدْ سُوِّيَ وَنُفِخَ فِيهِ مِنَ الرُّوحِ، قَالَ تَعَالَى: