أَذِنَ لَهُمْ فِي الِاعْتِذَارِ لَكَانَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِقَبُولِهِ اعْتِذَارَهُمْ نَظِيرَ قَوْلِهِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: 255] . وَالْمُثْبَتُ هُنَا مَعْذِرَةٌ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ بِهَا فَهِيَ غَيْرُ نَافِعَةٍ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 106- 108] وَقَوْلُهُ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 65] .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَنْفَعُ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِالتَّحْتِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ جَائِزٌ لِأَنَّ (مَعْذِرَةً) مَجَازِيُّ التَّأْنِيثِ، وَلِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ بِالْمَفْعُولِ.
ويُسْتَعْتَبُونَ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ وَالْمَبْنِيُّ مِنْهُ لِلْفَاعِلِ اسْتَعْتَبَ، إِذَا سَأَلَ الْعُتْبَى- بِضَمِّ الْعَيْنِ وَبِالْقَصْرِ- وَهِيَ اسْمٌ لِلْإِعْتَابِ، أَيْ إِزَالَةُ الْعَتَبِ، فَهَمْزَةُ الْإِعْتَابِ لِلْإِزَالَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت: 24] ، فَصَارَ اسْتُعْتِبَ الْمَبْنِيُّ لِلْمَجْهُولِ جَارِيًا عَلَى اسْتَعْتَبَ الْمَبْنِيِّ لِلْمَعْلُومِ فَلَمَّا قِيلَ: اسْتَعْتَبَ بِمَعْنَى طَلَبَ الْعُتْبَى صَارَ اسْتُعْتِبَ الْمَبْنِيُّ لِلْمَجْهُولِ بِمَعْنَى أُعْتِبُ، فَمَعْنَى وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ: وَلَا هُمْ بِمُزَالٍ عَنْهُمُ الْمُؤَاخَذَةُ نَظِيرَ قَوْلِهِ فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ. وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ عَجِيبٌ جَارٍ عَلَى تَصَارِيفَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي الْفَصِيحِ مِنَ الْكَلَامِ، وَبَعْضُ اشْتِقَاقِهَا غَيْرُ قِيَاسِيٍّ وَمَنْ حَاوَلُوا إِجْرَاءَهُ عَلَى الْقِيَاسِ اضْطُرُّوا إِلَى تَكْلِفَاتٍ فِي الْمَعْنَى لَا يَرْضَى بِهَا الذَّوْقُ السَّلِيمُ، وَالْعَجَبُ وُقُوعُهَا فِي «الْكَشَّافِ» . وَقَالَ فِي «الْقَامُوسِ» : وَاسْتَعْتَبَهُ: أَعْطَاهُ الْعُتْبَى كَأَعْتَبَهُ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ الْعُتْبَى ضِدٌّ.
وَالْمَعْنَى: لَا يَنْفَعُهُمُ اعْتِذَارٌ بِعُذْرٍ وَلَا إِقْرَارٌ بِالذَّنْبِ وَطَلَبِ الْعَفْوِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ فِي سُورَة النَّحْل [84] .
[58- 59]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)
لَمَّا انْتَهَى مَا أُقِيمَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ عَقِبَ