وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [الْقَصَص: 63] كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جِنِّي فِي «شَرْحِ مُشْكِلِ أَبْيَاتِ الْحَمَاسَةِ» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الْفَاتِحَة: 7] .
[73]
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73)
أُرِيدَ تَمْيِيزُ الْمُؤْمِنِينَ بِمُخَالَفَةِ حَالَةٍ هِيَ مِنْ حَالَاتِ الْمُشْرِكِينَ وَتِلْكَ هِيَ حَالَةُ سَمَاعِهِمْ دَعْوَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَطَلَبِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ، فَلِذَلِكَ جِيءَ بالصلة منفية لِتَحْصِيلِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ مَعَ التَّعْرِيضِ بِتَفْظِيعِ حَالِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ خَرُّوا صُمًّا وَعُمْيَانًا كَحَالِ مَنْ لَا يُحِبُّ أَنْ يَرَى شَيْئًا فَيَجْعَلُ وَجْهَهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَاسْتُعِيرَ الْخُرُورُ لِشِدَّةِ الْكَرَاهِيَةِ وَالتَّبَاعُدِ بِحَيْثُ إِنَّ حَالَهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ كَحَالِ الَّذِي يَخِرُّ إِلَى الْأَرْضِ لِئَلَّا يَرَى مَا يَكْرَهُ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ التَّقَوُّمِ وَالنُّهُوضِ، فَتِلْكَ حَالَةٌ هِيَ غَايَةٌ فِي نَفْيِ إِمْكَانِ الْقَبُولِ.
وَمِنْهُ اسْتِعَارَةُ الْقُعُودِ لِلتَّخَلُّفِ عَنِ الْقِتَالِ، وَفِي عَكْسِ ذَلِكَ يُسْتَعَارُ الْإِقْبَالُ وَالتَّلَقِّي وَالْقِيَامُ لِلِاهْتِمَامِ بِالْأَمْرِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخُرُورُ وَاقِعًا مِنْهُمْ أَوْ مِنْ بَعْضِهِمْ حَقِيقَةً لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ جُلُوسًا فِي مُجْتَمَعَاتِهِمْ وَنَوَادِيهِمْ فَإِذَا دَعَاهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَام طأطأوا رؤوسهم وَقَرَّبُوهَا مِنَ الْأَرْضِ لِأَنَّ ذَلِكَ لِلْقَاعِدِ يَقُومُ مَقَامَ الْفِرَارِ، أَوْ سَتْرِ الْوَجْهِ كَقَوْلِ أَعْرَابِيٍّ يَهْجُو قوما من طَيء، أَنْشَدَهُ الْمُبَرِّدُ:
إِذَا مَا قِيلَ أَيُّهُمْ لِأَيٍّ ... تشابهت المناكب والرؤوس
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى حِكَايَة فِي سُورَةِ نُوحٍ [7] وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً. وَتَقَدَّمَ الْخُرُورُ الْحَقِيقِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [107] ، وَقَوْلِهِ: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النَّحْل: 26] وَقَوْلِهِ: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فِي الْأَعْرَافِ