تَقْدِيرٌ وَقَضَاءٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ وَلَيْسَ غَيْرُهُ مَطْلُوبًا بِالْأَدْعِيَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ:

وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [الْمَائِدَة: 64] وَقَوْلِهِ: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التَّوْبَة: 30] وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [98] .

وَالْفَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالْمُرَادُ التَّسَبُّبُ الذِّكْرِيُّ بِمَعْنَى أَنَّ مَا قَبْلَهَا وَهُوَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ يُسَبِّبُ أَنْ يَنْطِقَ الْمُتَكَلِّمُ بِمَا بَعْدَهَا كَقَوْلِ قَيْسِ بْنِ الخطيم:

وَكنت امْرأ لَا أَسْمَعُ الدَّهْرَ سُبَّةً ... أُسَبُّ بِهَا إِلَّا كَشَفْتُ غِطَاءَهَا

فَإِنِّي فِي الْحَرْبِ الضَّرُوسِ مُوَكَّلٌ ... بِإِقْدَامِ نَفْسٍ مَا أُرِيدُ بَقَاءَهَا

فَعَطَفَ قَوْلَهُ: (فَإِنِّي) عَلَى قَوْلِهِ كَشَفْتُ غِطَاءَهَا لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ يُوجِبُ بَيَانَ أَنَّهُ فِي الْحَرْبِ مِقْدَامٌ.

وَاللَّامُ فِي (الْكَافِرِينَ) لِلِاسْتِغْرَاقِ بِقَرِينَةِ مَقَامِ الدُّعَاءِ يَشْمَلُ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ أَفْرَادِ هَذَا الْعُمُومِ بَلْ هُمْ أَوَّلُ أَفْرَادِهِ سَبْقًا لِلذِّهْنِ لِأَنَّ سَبَبَ وُرُودِ الْعَامِّ قَطْعِيُّ الدُّخُولِ ابْتِدَاءً فِي الْعُمُومِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ فَصِيحَةٌ فِي إِسْنَادِ الْحُكْمِ إِلَى الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ ابْتِدَاءُ بَعْضِ أَفْرَادِهِ لِأَنَّ دُخُولَ الْمُرَادِ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِطَرِيقَةٍ بُرْهَانِيَّةٍ كَمَا تَدْخُلُ النَّتِيجَةُ فِي الْقِيَاسِ قَالَ بَشَّامَةُ بْنُ حَزْنٍ النَّهْشَلِيُّ:

إِنَّا مُحَيُّوكِ يَا سَلْمَى فَحَيِّينَا ... وَإِنْ سَقَيْتِ كِرَامَ النَّاسِ فَاسْقِينَا

أَرَادَ الْكِنَايَةَ عَنْ كَرَمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يُسْقَوْنَ حِينَ يُسْقَى كرام النَّاس.

[90]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 90]

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)

اسْتِئْنَافٌ لِذَمِّهِمْ وَتَسْفِيهِ رَأْيِهِمْ إِذْ رَضُوا لِأَنْفُسِهِمُ الْكُفْرَ بِالْقُرْآنِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْرَضُوا

عَنِ النَّظَرِ فِيمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ كُتُبُهُمْ مِنَ الْوَعْدِ بِمَجِيءِ رَسُولٍ بَعْدَ مُوسَى، إِرْضَاءً لِدَاعِيَةِ الْحَسَدِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ قَدِ اسْتَبْقَوْا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْحَقِّ إِذْ كَفَرُوا بِالْقُرْآنِ، فَهَذَا إِيقَاظٌ لَهُمْ نَحْوَ مَعْرِفَةِ دَاعِيهِمْ إِلَى الْكُفْرِ وَإِشْهَارٌ لِمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ.

وبِئْسَمَا مُرَكَّبٌ مِنْ (بِئْسَ) وَ (مَا) الزَّائِدَةِ. وَفِي بِئْسَ وَضِدِّهَا نِعْمَ خِلَافٌ فِي كَوْنِهِمَا فِعْلَيْنِ أَوِ اسْمَيْنِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمَا فِعْلَانِ. وَفِي (مَا) الْمُتَّصِلَةِ بِهِمَا مَذَاهِبُ أَحَدُهَا أَنَّهَا مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ أَيْ تُفَسَّرُ بِاسْمٍ مُعَرَّفٍُُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015