وَمَعْنَى: مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا مَا يُطَاوِعُنَا طَلَبُ أَنْ نَتَّخِذَ عَبَدَةً لِأَنَّ (انْبَغَى) مُطَاوِعُ (بَغَاهُ) إِذَا طَلَبَهُ. فَالْمَعْنَى: لَا يُمْكِنُ لَنَا اتِّخَاذُنَا أَوْلِيَاءَ، أَيْ عِبَادًا، قَالَ تَعَالَى: وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: 35] . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [92] . وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ انْتِفَاءِ طَلَبِهِمْ هَذَا الِاتِّخَاذَ انْتِفَاءً شَدِيدًا، أَيْ نَتَبَرَّأُ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ نَفْيَ (كَانَ) وَجَعْلَ الْمَطْلُوبِ نَفْيُهُ خَبَرًا عَنْ (كَانَ) أَقْوَى فِي النَّفْيِ وَلِذَلِكَ يُسَمَّى جُحُودًا. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ فَائِدَتِهِ، أَيْ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَنَا فَكَيْفَ نُحَاوِلُهُ.
(وَمن) فِي قَوْلِهِ: مِنْ دُونِكَ لِلِابْتِدَاءِ لِأَنَّ أَصْلَ (دُونَ) أَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَكَانِ، وَيُقَدَّرُ
مُضَافٌ مَحْذُوفٌ يُضَافُ إِلَيْهِ (دُونَ) نَحْوُ: جَلَسْتُ دُونَ، أَيْ دُونَ مَكَانِهِ، فَمَوْقِعُ (مِنْ) هُنَا مَوْقِعُ الْحَالِ مِنْ أَوْلِياءَ. وَأَصْلُهَا صِفَةٌ لِ أَوْلِياءَ فَلَمَّا قُدِّمَتِ الصِّفَةُ عَلَى الْمَوْصُوفِ صَارَتْ حَالًا. وَالْمَعْنَى: لَا نَتَّخِذُ أَوْلِيَاءَ لَنَا مَوْصُوفِينَ بِأَنَّهُمْ مِنْ جَانِبٍ دُونَ جَانِبِكَ، أَيْ أَنَّهُمْ لَا يَعْتَرِفُونَ لَكَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَهُمْ يُشْرِكُونَ مَعَكَ فِي الْإِلَهِيَّةِ.
وَعَنِ ابْنِ جِنِّيٍّ: أَنَّ (مِنْ) هُنَا زَائِدَةٌ. وَأَجَازَ زِيَادَةَ (مِنْ) فِي الْمَفْعُولِ.
و (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَوْلِياءَ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ عُمُومِ النَّفْيِ، أَيِ اسْتِغْرَاقِهِ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ.
وَالْأَوْلِيَاءُ: جَمْعُ الْوَلِيِّ بِمَعْنَى التَّابِعِ فِي الْوَلَاءِ فَإِنَّ الْوَلِيَّ يُرَادِفُ الْمَوْلَى فَيَصْدُقُ عَلَى كِلَا طَرَفَيِ الْوَلَاءِ، أَيْ عَلَى السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ، أَوِ النَّاصِرِ وَالْمَنْصُورِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْوَلِيُّ التَّابِعُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [45] ، أَيْ لَا نَطْلُبُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَكُونُوا عَابِدِينَ لَنَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَتَّخِذَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ نَتَّخِذَ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ أَنْ يَتَّخِذَنَا النَّاسُ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ مِنْ دُونِكَ. فَمَوْقِعُ مِنْ دُونِكَ مَوْقِعُ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ نَتَّخِذَ. وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ: أَنهم يتبرّؤون مِنْ أَنْ يَدْعُوا النَّاسَ لِعِبَادَتِهِمْ، وَهَذَا تَسْفِيهٌ لِلَّذِينَ عَبَدُوهُمْ