فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ جَمِيعُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ لَا آيَاتٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ بَيْنِهَا. وَالْمَقْصُودُ التَّنْوِيهُ بِآيَاتِهَا بِإِجْرَاءِ وَصْفِ بَيِّناتٍ عَلَيْهَا.
وَإِذَا كَانَتِ الْآيَاتُ الَّتِي اشْتَمَلَتِ السُّورَةُ عَلَى جَمِيعِهَا هِيَ عَيْنُ السُّورَةِ لَا بَعْضًا مِنْهَا إِذْ لَيْسَ ثَمَّ شَيْءٌ غَيْرُ تِلْكَ الْآيَاتِ حَاوٍ لِتِلْكَ الْآيَاتِ حَقِيقَةً وَلَا مُشَبَّهَ بِمَا يَحْوِي، فَكَانَ حَرْفُ (فِي) الْمَوْضُوعُ لِلظَّرْفِيَّةِ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ لَا حَقِيقَةً وَلَا اسْتِعَارَةً مُصَرَّحَةً.
فَتَعَيَّنَ أَنَّ كَلِمَةَ فِيها تُؤْذِنُ بِاسْتِعَارَةٍ مَكْنِيَّةٍ بِتَشْبِيهِ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ بِأَعْلَاقٍ نَفْسِيَّةٍ تُكْتَنَزُ وَيُحْرَصُ عَلَى حِفْظِهَا مِنَ الْإِضَاعَةِ وَالتَّلَاشِي كَأَنَّهَا مِمَّا يُجْعَلُ فِي خِزَانَةٍ وَنَحْوِهَا.
وَرُمِزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ بِشَيْءٍ مِنْ رَوَادِفِهِ وَهُوَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ فَيَكُونُ حَرْفُ (فِي) تَخْيِيلًا مُجَرَّدًا وَلَيْسَ بِاسْتِعَارَةٍ تَخَيُّلِيَّةٍ إِذْ لَيْسَ ثَمَّ مَا يُشَبَّهُ بِالْخِزَانَةِ وَنَحْوِهَا، فَوِزَانُ هَذَا التَّخْيِيلِ وِزَانُ أَظْفَارِ الْمَنِيَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا ... أَلْفَيْتُ كُلَّ تَمِيمَةٍ لَا تَنْفَعُ
وَهَذِهِ الظَّرْفِيَّةُ شَبِيهَةٌ بِالْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ [الْمَائِدَة: 1] وَقَوْلِهِ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ [الْقَمَر: 43] فَإِنَّ الْكُفَّارَ هُمْ عَيْنُ ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ.
فَقَوْلُهُ: وَأَنْزَلْنا فِيها هُوَ: بِمَعْنَى وَأَنْزَلْنَاهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ. وَوَصْفُ آياتٍ بِ بَيِّناتٍ أَيْ وَاضِحَاتٍ، مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الْبَيْنَ هُوَ مَعَانِيهَا، وَأُعِيدَ فِعْلُ الْإِنْزَالِ مَعَ إِغْنَاءِ
حَرْفِ الْعَطْفِ عَنْهُ لِإِظْهَارِ مَزِيدِ الْعِنَايَةِ بِهَا.
وَالْوَجْهُ أَنَّ جُمْلَةَ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ مُرْتَبِطَةٌ بِجُمْلَةِ: أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لِأَنَّ الْآيَاتِ بِهَذَا الْمَعْنَى مَظِنَّةُ التَّذَكُّرِ، أَيْ دَلَائِلُ مَظِنَّةٍ لِحُصُولِ تَذَكُّرِكُمْ. فَحَصَلَ بِهَذَا الرَّجَاءِ وَصْفٌ آخَرُ لِلسُّورَةِ هُوَ أَنَّهَا مَبْعَثُ تَذَكُّرٍ وَعِظَةٍ. وَالتَّذَكُّرُ: خُطُورُ مَا كَانَ منسيا بالذهن وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِاكْتِسَابِ الْعِلْمِ مِنْ أَدِلَّتِهِ