وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)
أَصْلُ الزَّكَاةِ أَنَّهَا اسْمُ مَصْدَرِ (زَكَّى) الْمُشَدَّدِ، إِذَا طَهَّرَ النَّفْسَ مِنَ الْمَذَمَّاتِ. ثُمَّ
أُطْلِقَتْ عَلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ لِوَجْهِ اللَّهِ مَجَازًا لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ يُزِيدُ فِي مَالِ الْمُعْطِي. فَأَطْلَقَ اسْمَ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ. وَأَصْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التَّوْبَة: 103] ، وَأُطْلِقَتْ عَلَى نَفْسِ الْمَالِ الْمُنْفَقِ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِهِ وَهُوَ الْمُتَعَيِّنُ هُنَا بِقَرِينَةِ تَعْلِيقِهِ بِ فاعِلُونَ الْمُقْتَضِي أَنَّ الزَّكَاةَ مَفْعُولٌ. وَأَمَّا الْمَصْدَرُ فَلَا يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ لِفِعْلٍ مِنْ مَادَّةِ (ف. ع. ل) لِأَنَّ صَوْغَ الْفِعْلِ مِنْ مَادَّةِ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ يُغْنِي عَنِ الْإِتْيَانِ بِفِعْلٍ مُبْهَمٍ وَنَصْبِ مَصْدَرِهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ. فَلَوْ قَالَ أَحَدٌ: فَعَلْتُ مَشْيًا، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: مَشَيْتُ، كَانَ خَارِجًا عَنْ تَرْكِيبِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَوْ كَانَ مُفِيدًا، وَلَوْ قَالَ أَحَدٌ: فَعَلْتُ مِمَّا تُرِيدُهُ، لَصَحَّ التَّرْكِيبُ قَالَ تَعَالَى: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا [الْأَنْبِيَاء: 59] ، أَيْ هَذَا الْمُشَاهَدُ مِنَ الْكَسْرِ وَالْحَطْمِ، أَيْ هَذَا الْحَاصِلُ بِالْمَصْدَرِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَصْدَرَ لِأَنَّهُ لَا يُشَارُ إِلَيْهِ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ غَيْبَةِ فَاعِلِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالْفِعْلِ هُنَا الْفِعْلُ الْمُنَاسِبُ لِهَذَا الْمَفْعُولِ وَهُوَ الْإِيتَاءُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ [الْمَائِدَة: 55] فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ.
وَإِنَّمَا أُوثِرَ هُنَا الِاسْمُ الْأَعَمُّ وَهُوَ فاعِلُونَ لِأَنَّ مَادَّةَ (ف ع ل) مُشْتَهِرَةٌ فِي إِسْدَاءِ الْمَعْرُوفِ، وَاشْتُقَّ مِنْهَا الْفَعَالُ بِفَتْحِ الْفَاءِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ الْخَارِجِيُّ:
إِنْ تُنْفِقِ الْمَالَ أَوْ تُكَلَّفْ مَسَاعِيَهُ ... يَشْقُقْ عَلَيْكَ وَتَفْعَلْ دُونَ مَا فُعِلَا
وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ جَاءَ مَا نُسِبَ إِلَى أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
الْمُطْعِمُونَ الطَّعَامَ فِي السَّنَةِ الْأَزِ ... مَةِ وَالْفَاعِلُونَ لِلزَّكَوَاتِ
أَنْشَدَهُ فِي «الْكَشَّافِ» . وَفِي نَفْسِي مِنْ صِحَّةِ نِسْبَتِهِ تَرَدُّدٌ لِأَنِّي أَحْسَبُ اسْتِعْمَالَ الزَّكَاةِ فِي مَعْنَى الْمَالِ الْمَبْذُولِ لِوَجْهِ اللَّهِ إِلَّا مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ،