تَقْتَضِي هَذِهِ الْكِنَايَةُ كِنَايَةً عَنْ تَعْمِيمِ هَذَا الْهَوْلِ لِكُلِّ النَّاسِ لِأَنَّ خُصُوصِيَّةَ هَذَا الْمَعْنَى بِهَذَا الْمَقَامِ أَنَّهُ أَظْهَرُ فِي تَصْوِيرِ حَالَةِ الْفَزَعِ وَالْهَلَعِ بِحَيْثُ يَذْهَلُ فِيهِ مَنْ هُوَ فِي حَالِ شِدَّةِ التَّيَقُّظِ لِوَفْرَةِ دَوَاعِي الْيَقَظَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لِشِدَّةِ شَفَقَتِهَا كَثِيرَةُ الِاسْتِحْضَارِ لِمَا تُشْفِقُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْمُرْضِعَ أَشَدُّ النِّسَاءِ شَفَقَةً عَلَى رَضِيعِهَا، وَأَنَّهَا فِي حَالِ مُلَابَسَةِ الْإِرْضَاعِ أَبْعَدُ شَيْءٍ عَنِ الذُّهُولِ فَإِذَا ذُهِلَتْ عَنْ رَضِيعِهَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْهَوْلَ الْعَارِضَ لَهَا هَوْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْكِنَايَةِ
عَنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الْهَوْلِ لِأَنَّ اسْتِلْزَامَ ذُهُولِ الْمُرْضِعِ عَنْ رَضِيعِهَا لِشِدَّةِ الْهَوْلِ يَسْتَلْزِمُ شِدَّةَ الْهَوْلِ لِغَيْرِهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَهُوَ لُزُومٌ بِدَرَجَةٍ ثَانِيَةٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْكِنَايَةِ يُسَمَّى الْإِيمَاءَ.
وَ (مَا) فِي عَمَّا أَرْضَعَتْ
مَوْصُولَة مَا صدقهَا الطِّفْلُ الرَّضِيعُ. وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ، وَحَذْفُ مِثْلِهِ كَثِيرٌ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ فِي تَعْرِيفِ الْمَذْهُولِ عَنْهُ دُونَ أَنْ يَقُولَ عَنِ ابْنِهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا تَذْهَلُ عَنْ شَيْءٍ هُوَ نُصْبَ عَيْنِهَا وَهِيَ فِي عَمَلٍ مُتَعَلِّقٍ بِهِ وَهُوَ الْإِرْضَاعُ زِيَادَةً فِي التَّكَنِّي عَنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ.
وَقَوْلُهُ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
هُوَ كِنَايَةٌ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
. وَوَضْعُ الْحَمْلِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِشِدَّةِ اضْطِرَابِ نَفْسِ الْحَامِلِ مِنْ فَرْطِ الْفَزَعِ وَالْخَوْفِ لِأَنَّ الْحَمْلَ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ.
وَالْحَمْلُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، بِقَرِينَةِ تَعَلُّقِهِ بِفِعْلِ تَضَعُ
أَيْ تَضَعُ جَنِينَهَا.
وَالتَّعْبِيرُ بِ ذاتِ حَمْلٍ
دُونَ التَّعْبِيرِ: بِحَامِلٍ، لِأَنَّهُ الْجَارِي فِي الِاسْتِعْمَالِ فِي الْأَكْثَرِ. فَلَا يُقَالُ: امْرَأَةٌ حَامِلٌ، بَلْ يُقَالُ: ذَاتُ