يَقُول الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور فِي كِتَابه "أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب" - إِيذَانًا مِنْهُ بِقرب النَّصْر واستعادة الْأمة مجدها وتخلصها من المستعمر الفرنسي الَّذِي باغتها فِي عقل دارها-:" رَأَيْت الَّذِي يطْمع فِي الْبَحْث عَن مُوجبَات تدلي الْعُلُوم يَرْمِي بِنَفسِهِ إِلَى متسع رُبمَا لَا يجد مِنْهُ مخرجا فِي أمد غَيره طَوِيل، وأيقنت أَن لأسباب تَأَخّر الْمُسلمين عُمُوما رابطة وَثِيقَة بِأَسْبَاب تَأَخّر الْعُلُوم" [14] . أحس الشَّيْخ ابْن عاشور بِقِيمَة الْعلم فِي سَبِيل نهوض الْأمة وحاول من خلال كِتَابه الْمَذْكُور أَن يقدم بديلا لما سَاد فِي أوساط الْجَامِع الْمَعْمُور من مناهج لتدريس الطّلبَة الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة الَّتِي توارثها الأجيال أَبَا عَن جد دون نظر وإعمال للرأي ومكنت الغرب بالتالي من استحكام سيطرته على الْعَالم الإسلامي والقطر التّونسِيّ جُزْء مِنْهُ.
وَقبل أَن يسْرد سببين رئيسيين لتأخر الْعُلُوم وَيزِيد عَلَيْهِمَا خَمْسَة عشر سَببا فرعيا، قدم نظرته إِلَى الْعُلُوم ورسم منهجه فِي التَّعَامُل مَعَ الْعلم وأطواره، فقسم الْعُلُوم قسمَيْنِ من جِهَة ثَمَرَتهَا:
1- مَا تنشأ عَنْهَا ثَمَرَة هِيَ من نوع مَوْضُوعَات مسَائِله، كعلم النَّحْو فثمرته تجتنى مِنْهُ وَهِي ثَمَرَة لفظية مَحْضَة.
2- مَا يبْحَث عَن أَشْيَاء لَا لذاتها بل لاستنتاج نتائج عَنْهَا مثل علم التَّارِيخ والفلسفة والهندسة النظرية وأصول الْفِقْه وَغَيرهَا، فبالتاريخ يَسْتَعِين مزاوله على عقل التجارب وتجنب مضار الحضارات والأخطاء الَّتِي وَقعت فِيهَا الْأُمَم السَّابِقَة، والفلسفة تنير الْعقل وتدربه على فتح أَبْوَاب الْحَقَائِق وهاته الْأَشْيَاء لَا تقْرَأ فِي الفلسفة وَإِنَّمَا يتعودها الذِّهْن فِي ضمن ممارساته وَمثل ذَلِك علم البلاغة وَجَمِيع الْعُلُوم البرهانية النظرية، وأصول الْفِقْه فِي فلسفة الاستنباط.
يضيف فِي كِتَابه "أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب" ليقول كَلمته الحاسمة فِي التَّعَامُل مَعَ الْعُلُوم بمنطق النَّقْد والتطوير دون الْخُرُوج عَن أدب الِالْتِزَام بمناهج القدماء من سلف الْأمة، فَيَقُول:" وَإِن أطوار الْعُلُوم فِي الْأمة تشبه أطوارها فِي الْأَفْرَاد ذَلِك أَن الْعلم فِي الْأمة كَمَا هُوَ فِي الْفَرد لَهُ أَرْبَعَة أطوار:
1- طور الْحِفْظ والتقليد وَالْقَبُول للمسائل كَمَا هِيَ من غير انتساب بَعْضهَا من بعض وَلَا تفكر فِي غايتها بل لقصد الْعَمَل.
2- طور انتساب بَعْضهَا من بعض وتنويعها وَالِانْتِفَاع بِبَعْضِهَا فِي بعض.
3- طور الْبَحْث فِي عللها وأسرارها وغاياتها.
4- الحكم عَلَيْهَا بِاعْتِبَار تِلْكَ الْعِلَل بالتصحيح والنقد وَهُوَ طور التضلع والتحرير.
عُزز موقف الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور بتسميته شَيخا لِلْإِسْلَامِ الْمَالِكِي سنة 1932م ثمَّ بتكليفه فِي شهر سبتمبر من نفس السّنة 1932م بمهام شيخ مدير الْجَامِع الْأَعْظَم وفروعه فتيسر لَهُ الشُّرُوع فِي تطبيق آرائه الإصلاحية الَّتِي كَانَت شغله الشاغل [15] إِلَّا أَن الدسائس والمؤامرات الَّتِي كَانَت تحاك ضِدّه من طرف معارضيه "الزيتونيين" من المتحفظين على خطواته الإصلاحية من جِهَة وأعدائه وخصومه السياسيين "زعماء الحزب الْحر الدستوري الْجَدِيد" الَّذين شعروا بنفوذه وقبوله من طرف كل المحيطين بِهِ والدور الَّذِي يُمكن أَن يلعبه فِي سحب الْبسَاط من تَحت أَرجُلهم [16] من جِهَة ثَانِيَة جعلته يقدم استقالته فِي سبتمبر السّنة الموالية 1933م. وَفِي سنة 1364هـ -1945م عيّن مرّة ثَانِيَة شَيخا للجامع الْأَعْظَم وفروعه وقوبلت عودة الشَّيْخ بحماس فياض من طرف الأوساط الزيتونية والرأي التّونسِيّ بِصفة عَامَّة واهتز المعهد الزيتوني وفروعه سُرُورًا فانتظمت عدَّة تظاهرات تكريما وارتياحا لعودة الشَّيْخ بالعاصمة وَمِنْهَا الِاسْتِقْبَال الْحَار الَّذِي خصته بِهِ فروع سوسة والقيروان وصفاقس بمناسبة الزِّيَارَة التفقدية الَّتِي قَامَ بهَا الشَّيْخ ابْن عاشور فِي ماي 1945م فَور تَسْمِيَته من جَدِيد على رَأس إدارة التَّعْلِيم الزيتوني فَانْطَلَقت أَلْسِنَة الأدباء وَالشعرَاء بالقصائد الحماسية والأناشيد [17] .
واستأنف الشَّيْخ تطبيق برنامجه الإصلاحي فَجعل الْفُرُوع الزيتونية تَحت مراقبة إدارة مشيخة الْجَامِع رَأْسا بَعْدَمَا كَانَت ترجع شؤونها بِالنّظرِ إِلَى السلط الشَّرْعِيَّة الجهوية. كَمَا زَاد الشَّيْخ ابْن عاشور فِي عدد الْفُرُوع الزيتونية الَّذِي ارْتقى فِي مُدَّة سبع سنوات (1949 - 1956م) من ثَمَانِيَة إِلَى خمس وَعشْرين (مِنْهَا اثْنَان للفتيات فِي تونس وصفاقس) وَصَارَ عدد تلامذة الزيتونة وفروعها يناهز الْعشْرين ألف تلميذ فِي حُدُود 1956م [18] .
كَمَا امتدت شبكة فروع الزيتونة إِلَى الْقطر الجزائري بإنشاء فرعين فِي مَدِينَة قسنطينة [19] .
وحرص الشَّيْخ ابْن عاشور على أَن يحسن من أوضاع الطّلبَة المعيشية والاجتماعية لَهُم لما لَهُ قيمَة فِي رفع معنويات الطّلبَة الزيتونيين إزاء إخْوَانهمْ الميسرين، وأمام الضغوط من حَولهمْ على الْقَضَاء على التَّعْلِيم الزيتوني [20] والحيرة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أغلب أَبنَاء الزيتونة والآفاق الَّتِي يُمكن أَن يرسموها لمستقبلهم، فأنشئت مطابخ بِبَعْض الْمدَارِس مكنت الطّلبَة من تنَاول الطَّعَام ثَلَاث مَرَّات فِي الْيَوْم بأسعار زهيدة. إِلَّا أَن ذَلِك لم يكن شَيْئا يذكر أَمَام البنايات الْقَدِيمَة وَضعف مَالِيَّة إدارة المشيخة وَهِي حَقِيقَة عاشها كل الزيتونيين.
تجدر الْإِشَارَة إِلَى أَن سلطات الحماية حاولت تَعْطِيل إنجاز برنامج الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور بطرق متنوعة مِنْهَا مقاومة إنْشَاء الْفُرُوع …وَقد زَاد تفاقم الْوَضع الظروف السياسية فِي الْبِلَاد وانعكاسها على الأوساط الزيتونية انعكاسا تسبب فِي اضْطِرَاب دَاخل الْجَامِع. وبسبب تمسك الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور بمبدأ عدم الاستجابة لرغبة الْأَحْزَاب السياسية فَاشْتَدَّ الْخلاف بَينه وَبَين الوزارة فِي سنة 1950م [21] ، خُصُوصا إِثْر رفض الشَّيْخ ابْن عاشور لطلب تِلْكَ الوزارة بطرد بعض الطّلبَة أَعْضَاء صَوت الطَّالِب الزيتوني [22] المناهض للحزب. وَقد قررت السلطة إبعاد الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور عَن مُبَاشرَة وظيفته مَعَ إبقائه فِي خطته وتكليف كاهيته الشَّيْخ عَليّ النيفر بإدارة المشيخة. وَفِي سِتَّة 1956م عَاد الشَّيْخ ابْن عاشور إِلَى مُبَاشرَة شؤون التَّعْلِيم الزيتوني بعنوان شيخ عميد للجامعة الزيتونية من سنة 1956 إِلَى 1960م تَارِيخ الْقَضَاء على الزيتونة والتعليم الزيتوني.
كَانَ أول من حَاضر بِالْعَرَبِيَّةِ بتونس فِي هَذَا الْقرن، أما كتبه ومؤلفاته فقد وصلت إِلَى الْأَرْبَعين هِيَ غَايَة فِي الدقة العلمية. وتدل على تبحر الشَّيْخ فِي شَتَّى الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وَالْأَدب. وَمن أجلّها كِتَابه فِي التَّفْسِير "التَّحْرِير والتنوير" مَوْضُوع بحثنا. وَكتابه الثمين والفريد من نَوعه "فِي مَقَاصِد الشَّرِيعَة الإسلامية"، وَكتابه حَاشِيَة التَّنْقِيح للقرافي، و"أصُول الْعلم الاجتماعي فِي الْإِسْلَام"، وَالْوَقْف وآثاره فِي الْإِسْلَام، وَنقد علمي لكتاب أصُول الحكم، وكشف المعطر فِي أَحَادِيث الْمُوَطَّأ، والتوضيح والتصحيح فِي أصُول الْفِقْه، وموجز البلاغة، وَكتاب الْإِنْشَاء والخطابة، شرح ديوَان بشار وديوان النَّابِغَة ... إِلَخ.
وَلَا تزَال العديد من مؤلفات الشَّيْخ مخطوطة مِنْهَا: مَجْمُوع الْفَتَاوَى، وَكتاب فِي السِّيرَة، ورسائل فقهية كَثِيرَة [23] .
وَقد قسمت مؤلفاته إِلَى قسمَيْنِ مِنْهَا مؤلفات فِي الْعُلُوم الإسلامية، وَأُخْرَى فِي الْعَرَبيَّة وآدابها [24] :
· الْعُلُوم الإسلامية:
1- التَّحْرِير والتنوير
2- مَقَاصِد الشَّرِيعَة الإسلامية
3- أصُول النظام الاجتماعي فِي الْإِسْلَام
4- أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب
5- الْوَقْف وآثاره فِي الْإِسْلَام
6- كشف الْمُعْطى من الْمعَانِي والألفاظ الْوَاقِعَة فِي الْمُوَطَّأ
7- قصَّة المولد
8- حَوَاشِي على التَّنْقِيح لشهاب الدَّين الْقَرَافِيّ فِي أصُول الْفِقْه
9- رد على كتاب الْإِسْلَام وأصول الحكم تأليف على عبد الرازق
10- فَتَاوَى ورسائل فقهية
11- التَّوْضِيح والتصحيح فِي أصُول الْفِقْه
12- النّظر الفسيح عِنْد مضايق الأنظار فِي الْجَامِع الصَّحِيح
13- تَعْلِيق وَتَحْقِيق على شرح حَدِيث أم زرع
14- قضايا شَرْعِيَّة وَأَحْكَام فقهية وآراء اجتهادية ومسائل علمية
15- آمال على مُخْتَصر خَلِيل
16- تعاليق على العلول وحاشية السياكوتي
17- آمال على دَلَائِل الإعجاز
18- أصُول التَّقَدُّم فِي الْإِسْلَام
19- مراجعات تتَعَلَّق بكتابي: معجز أَحْمد واللامع للعزيزي
· اللُّغَة الْعَرَبيَّة وآدابها:
1- أصُول الْإِنْشَاء والخطابة
2- موجز البلاغة
3- شرح قصيدة الْأَعْشَى
4- تَحْقِيق ديوَان بشار
5- الْوَاضِح فِي مشكلات المتنبي
6- سرقات المتنبي
7- شرح ديوَان الحماسة لأبي تَمام
8- تَحْقِيق فَوَائِد العقيان لِلْفَتْحِ ابْن خاقَان مَعَ شرح ابْن زاكور
9- ديوَان النَّابِغَة الذَّهَبِيّ
10- تَحْقِيق "مُقَدّمَة فِي النَّحْو" لخلف الْأَحْمَر
11- تراجم لبَعض الْأَعْلَام
12- تَحْقِيق كتاب "الاقتضاب" للبطليوسي مَعَ شرح كتاب أدب الْكَاتِب
13- جمع وَشرح ديوَان سحيم
14- شرح معلقَة امْرِئ الْقَيْس
15- تَحْقِيق لشرح الْقرشِي على ديوَان المتنبي
16- غرائب الِاسْتِعْمَال
17- تَصْحِيح وَتَعْلِيق على كتاب "النتصار" لِجَالِينُوسَ للحكيم ابْن زهر.
وَقد عدد الدكتور مُحَمَّد الحبيب بن الخوجة المجلات العلمية الَّتِي أسْهم فِيهَا الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور، نذْكر مِنْهَا:
- السَّعَادَة الْعُظْمَى
- الْمجلة الزيتونية
وَمن الصُّحُف والمجلات الشرقية:
- هدى الْإِسْلَام
- نور الْإِسْلَام
- مِصْبَاح الشرق
- مجلة الْمنَار
- مجلة الْهِدَايَة الإسلامية
- مجلة مجمع اللُّغَة الْعَرَبيَّة بِالْقَاهِرَةِ
- مجلة الْمجمع العلمي بِدِمَشْق.
وَقد شغل مهمة عُضْو مراسل لمجمعي اللُّغَة الْعَرَبيَّة بِالْقَاهِرَةِ ودمشق مُنْذُ سنة 1955م.