وَالصَّفُّ: مَصْدَرُ بمَعْنَى الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، أَيْ صَافِّينَ أَوْ مَصْفُوفِينَ، إِذا ترتبوا وَاحِد حَذْوَ الْآخَرِ بِانْتِظَامٍ بِحَيْثُ لَا يَكُونُونَ مُخْتَلِطِينَ، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا الْوَاحِدَ حَذْوَ الْآخَرِ وَكَانَ الصَّفُّ مِنْهُمْ تِلْوَ الْآخَرِ كَانُوا أَبْهَرَ مَنْظَرًا، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا [الصفّ: 4] . وَكَانَ جَمِيعُ سَحَرَةِ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ قَدْ أُحْضِرُوا بِأَمْرِ فِرْعَوْنَ
فَكَانُوا عَدَدًا كَثِيرًا. فَالصَّفُّ هُنَا مُرَادٌ بِهِ الْجِنْس لَا الْوَاحِدَة، أَيْ ثُمَّ ائْتُوا صُفُوفًا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النبأ: 38] وَقَالَ: وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الْفجْر: 22] .
وَانْتَصَبَ صَفًّا عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ ائْتُوا وَالْمَقْصُودُ الْإِتْيَانُ إِلَى مَوْضِعِ إِلْقَاءِ سِحْرِهِمْ وَشَعْوَذَتِهِمْ، لِأَنَّ التَّنَاجِيَ وَالتَّآمُرَ كَانَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى.
وَجُمْلَةُ وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ يَجْمَعُ مَا قَصَدُوهُ مِنْ تَآمُرِهِمْ بِأَنَّ الْفَلَاحَ يَكُونُ لِمَنْ غَلَبَ وَظَهَرَ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ. فَ اسْتَعْلى مُبَالَغَةٌ فِي عَلَا، أَيْ عَلَا صَاحِبَهُ وَقَهَرَهُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ اسْتَأْخَرَ.
وَأَرَادُوا الْفَلَاحَ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمَوَاقِفِ مِمَّا يُؤَثِّرُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ وَإِنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْحَيَاةِ الثَّانِيَة.
[65- 66]
قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66)
تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ وَمَعَانِيهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ سِوَى أَنَّ الْأَوَّلِيَّةَ هُنَا مُصَرَّحٌ بِهَا فِي أَحَدِ الشِّقَّيْنِ. فَكَانَتْ صَرِيحَةً فِي أَنَّ التَّخْيِيرَ يَتَسَلَّطُ عَلَى